دعوة إلى النوم

TT

فهمت يا مولانا كل ما حاولوا إفهامي. عرفت انه تم تقصيب نوري السعيد لأن الرئيس صدام سوف يعد عنه كتابا يعيد إليه الاعتبار. وعرفت ان أحمد بن بللا اطيح وسجن ولم يعد يسمح له بمقابلة أحد سوى أمه لأنه ليس من الضروري ان يقابل احدا في أي حال. وفهمت ان فاروق لم يعد ملكا, وعرفت ان ادريس السنوسي موحد ليبيا ورجل الاستقلال قد أزيح، لأنه أمضى في الحكم أكثر مما ينبغي.

لكنني منذ سنوات طويلة وانا اقرأ ولا أفهم لماذا اطيح اللواء محمد نجيب، راعي الثورة المصرية، ولماذا سجن عقدين مع الجراذين والصراصير، ولماذا منع الرجل العجوز من مقابلة الناس. قرأت معظم ما كتب من مذكرات وضعها أهل الثورة، بما فيها ما كتبه الناصري الأمين والصادق سامي شرف، ولم استطع بعد أن أفهم لماذا أبعد محمد نجيب. واذا ابعد لماذا بقي بعيدا. واذا ابقي بعيدا فلماذا في منزل معزول مهجور منسي خال من أي علامة من علامات الصفح والرفاقية السابقة واحترام مكانته كرئيس وضابط كبير.

وإذ اقرأ في مذكرات محمد نجيب بحثا عن خلاصة منطقية لما حدث أو سبب وجيه أو تهمة بمؤامرة أو حتى تهمة ملفقة، لا أجد شيئا. وكان يمكن ان يبقى الرجل العجوز في مكانه، رئيسا صوريا يحضر الاحتفالات عند اللزوم، وكان يمكن ان يذهب الى بيته ومعه حارس واحد يؤدي له التحية كلما خرج الى الحديقة أو ذهب يتمشى على النيل. لكن محمد نجيب ابقي قصة منسية وحكاية مهملة. وكما الغي فاروق واسرته من تاريخ مصر الحديث الغي محمد نجيب، الرجل الذي كان ابتسامة الثورة وصورتها الأبوية، بالاضافة الى انه كان السبب الاول في نجاحها. فلولا سمعته ومكانته في الجيش، لتعرقلت أمور كثيرة.

يروي محمد نجيب انه ذهب الى «بني مر»، قرية الرئيس جمال عبد الناصر، الذي اقام له استقبالا شعبيا والقى خطابا قال فيه: «لقد حررتنا من الفزع والخوف وآمنا بك مصلحا لمصر ونذيرا لاعدائها. ان مصر كلها تناصرك للقضاء على قوات الاحتلال». لكن الخلافات بدأت بعد قليل بين الرفاق. نجيب كان يرفض «محكمة الثورة» التي ستوجه الى رجال الحكم السابق تهم الخيانة العظمى وترسلهم الى الاعدام، والباقون كانوا يصرون. هو كان يريد ان تحب الناس الثورة وهم كانوا يريدون ان تخافها. لا مجال للسهو.

اكثر ما أحزن محمد نجيب الطريقة التي ابلغ بها بإعفائه. وراح يقارن في نفسه بين الطريقة التي ودع بها الملك فاروق والطريقة التي ودُّع بها: «كنت حريصا على ان يكون وداعه وداعا رسميا مشمولا بكل مظاهر التكريم والرعاية والاحترام. سمحت له بأن يأخذ أشياءه الخاصة والشخصية، وأمرت ان تطلق المدفعية 21 طلقة في وداعه وان تعزف الموسيقى وان ينزل العلم عن السارية ليحتفظ به. أما انا فلم يشرحوا لي ما حدث ولم يحترموا سني ولا رتبتي ولا مركزي ولا دوري والقوا بي في ايد لا ترحم ولا تحس، وبين بشر تتعفف الحيوانات من الانتساب لهم».

هل تستحق مذكرات محمد نجيب القراءة؟ لا. نحن قوم تكدرنا قراءة التاريخ ويغلب علينا النعاس. والحقائق تذهب مع أصحابها.