كينيان.. آه كينيا

TT

سأله أمين معلوف مرة، أين سيمضي عطلة الصيف. وكان قد أصاب النجاح لفترة وخرج، كما رجَّحت، من ضرورات القتر وإحكام التوفير. وفوجئت عندما سمى بلدا في أفريقيا الشمالية. وقلت لماذا؟ فقال «لأن أولادي صغار بعد ولم يعرفوا في الدنيا سوى باريس. وأريد أن يروا الفقر». وقبل عامين أو ثلاثة ذهب الزميل شوقي الريس مع أولاده إلى كينيا، وسألته إن كان قد أخذهم إلى الأماكن الجميلة التي عرفتها هناك، فقال إنه فعل، لكنه أخذهم أيضا إلى «أكبر تجمع للفقر على وجه الأرض. شيء أكبر من كولكتا وأعظم من حقيقة فقرها. لقد أخذتهم إلى «عدن» الفقر المطلق».

لم يكن ذلك انطباعي عن كينيا عندما ذهبت إليها في الرابعة والعشرين من العمر. كانت بلدا فرحا وجميلا يخرج إلى الاستقلال مثل بطة خرجت من بيضتها قبل قليل. وكان كل ما في نيروبي مبهجا حتى الفاقة. فقد كان هناك شيء أكثر أهمية هو الأمل. وكانت كينيا ترقص وتغني في الشوارع: الرجل الأبيض يودع ويحزم حقائبه، ولكنه يبقى هنا أيضا كعامل من أجل أن يساعد الأفريقي على النهوض. وهذه هي كينيا تردد وراء زعيم الاستقلال الأسطوري جومو كينياتا: هارامبي. الحرية. لن أنسى تلك الاحتفالات. ألوف الناس ترقص في ساحة واحدة، بمئات الألوان، بمئات الزغاريد، بمئات الطبول، بآلاف الرماح، بآلاف الزينات، بريش النعام وريش الصقور والأقنعة والجماجم والهتاف. وكان كينياتا يهتف: هارامبي، رافعا ذيل الحصان الذي لا يفارقه. وكانت كينيا تهدر خلفه: الحرية.

كنت أجلس في الصفوف الخلفية الخلفية، وصدفة إلى جانب الزعيم السوري صلاح الدين البيطار، ممثل بلاده في الحفل. ولم يكن شيء مما يجري في الساحة العظيمة يحرك في الأستاذ البيطار أي انفعال أو مشاعر. فقد كان يخاف على وقاره من السقوط في تلك الألوان المذهلة. وبالفعل كان له وقاره. أما أنا فشعرت أن الدنيا تدور بي، وأنني أذوب في عالم لا أعرف عنه شيئا إلا مشاهد الأفلام وصوت قرع الطبول تدق بعيدة من أجل أن تصور لنا مدى عمق الغابة ورهبة الأصوات الأخرى المختبئة بصمتها على الشجر.

حملت صورة كينيا بألوانها في ذاكرتي. واعتقدت ـ أو حلمت ـ بأنها سوف تنمو في الاستقلال لتصبح زنبقة أفريقيا. على الأقل أفريقيا الشرقية. فقد تصالح جومو كينياتا مع الاستعمار قبل زمن طويل من مصالحة نلسون مانديلا مع الرجل الأبيض. وأقنع كينياتا، الذي كان بالأمس زعيم الماو ماو، أقنع رفاقه، بأن الشراكة مع المستعمر هي الحل، ما دمنا أحرارا صارت العبودية خلفنا: سوف نفيد من علم المستعمر السابق ومن خبرته ومن مساعدته، لكي لا تطول علينا مسيرة التقدم والتطور. يجب أن نرغمه على إسعافنا في تقصير المسافات.