بكالوريوس في حكم الشعوب

TT

الأحداث الدامية في كينيا تذكرنا برواندا في مطلع التسعينات، حيث تطرح ملامحها الأفريقية الدامية سؤالا متكررا ـ ويغلفه التصحيح السياسي political correctness بضباب اللف والدوران، فطرحه قد يحمل اتهام العنصرية (وسأتجاهلها لأنني جغرافيا افريقي بحكم المولد في الاسكندرية) ـ: الديموقراطية الليبرالية التي ضمنت الرخاء والتقدم والرفاهية لنصف سكان الكرة العالم، هل تلائم افريقيا؟

اذا كانت الاجابة نعم؛ هل تستحق التضحيات الدموية مثل حرق اطفال لاذوا بدار للرب، لمجرد انتمائهم لقبيلة اخرى؟ عندما احرقت المحلات والسيارات في اشتباكات بريكستون، جنوب لندن عام 1981، بين المهاجرين من الهند الغربية وأفريقيا، وبين البوليس، لم ترق نتائج تحقيق اللورد سكارمون القضائي لرئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر لاتهامه البوليس بخشونة معاملة السود، الذين يعانون الفقر والبطالة اكثر من اي فئات أخرى، فحذرت بأن «قشرة المدنية ضحلة ورقيقة جدا». اخطأت البارونة ثاتشر لأن جذور المدنية الديموقراطية ضاربة في اعماق الأمة البريطانية من قبل ظهور الدولة القومية الحديثة قبل ثمانية قرون.

فمهما اختلفت اعراق المهاجرين او سكان الجزر البريطانية الأصليين، وحدتهم الديموقراطية كثقافة سياسية اجتماعية شبوا عليها كشعوب الامبراطورية (الكمونولث حاليا).

ويجمعهم اتفاق «جنتلمان» بجوهر التنافس الانتخابي حول اداء الحكومة مقارنة بأداء المعارضة، في الاقتصاد ثم الشؤون الاخرى كالصحة والتعليم والضرائب والخدمات. وإذا اشار الناخب للحكومة نحو باب الخروج، ينهض رئيسها نحوه بروح رياضية لتدخل المعارضة ويتحمل الناخب نتيجة خياره حسب الاتفاق نفسه. الرئيس الكيني مواي كيباكي خرج عن هذا الاجماع ـ باعتراف صموئيل كيفيويتو، رئيس المفوضية الانتخابية ـ ولذا نرشحه لعضوية نادي الديكتاتورية الافريقي ورئيسه الحالي روبرت موغابي، حاكم زيمبابوي بـ«العافية» والتزوير لـ27 عاما مستمرة، وشرط العضوية الوحيد رفض الزعيم تصديق ان الشعب قال «كفاية» في الانتخابات وأن الأمة قادرة على البقاء دونه؛ مدة العضوية تحددها البيولوجيا أو انقلاب «تصحيحي» بيد مرشح آخر للعضوية.

استوحيت فكرة النادي من كوميديا الصديق المفكر والمسرحي المصري علي سالم «بكالوريوس في حكم الشعوب»، عن بلد افريقي صحراوي غني بالبترول، سرق طلاب السنة الاولى في مدرسته الحربية انقلابا ثلاثيا اعده طلاب السنة الثانية (بدعم واشنطن)، والثالثة (بدعم موسكو) والرابعة (بدعم لندن)، فأصبح زعيمهم، طارق، في مطلع العشرينات، رئيسا لمجلس قيادة الثورة. يذهب طارق الى مدرسة الامم المتحدة في جنيف، تنفيذا لقرارها بضرورة اجتياز زعيم اي انقلاب امتحان البكالوريوس في حكم الشعوب كشرط لاعتراف العالم.

المحاضرات تقاطع باستمرار لاستبدال الزعماء بتلاميذ جدد لاستمرار الانقلابات «التصحيحية» في عواصمهم، ماعدا الافريقي «كاباكا» المواظب على الدراسة الذي منح شعبه حرية استخراج الباسبور والسفر من دون تأشيرة خروج. وبعد يومين لم يبق في البلد أحد يرد على مكالمات كاباكا بعد مغادرة المواطن الأخير، ناسيا اطفاء الانوار قبل سفره متجها الى اوروبا طبعا.

الديموقراطية ليست انتخابات فحسب، بل ثقافة وأسلوب حياة تراكم عبر اجيال. هناك جذور للديموقراطية في بقع تتناثر بين قرطاج شمالا الى كيب تاون جنوبا، ومن كازبلانكا غربا الى مقديشو شرقا لكنها تنمو ببطء، حتى في المستعمرات السابقة ببرلمانات كانت يوما فاعلة، في تربة ضحلة فلا تقوى على دعم الشجيرات امام رياح الخلافات الانتخابية.

كينيا اليوم؛ وعام 2005 زور الحزب الحاكم في اثيوبيا الانتخابات ـ وأدانتها بعثة الاتحاد الاوروبي ـ واصطدمت قوات الأمن بالمتظاهرين فمات 193 واعتقل المئات. وفي ابريل الماضي، لقي العشرات مصرعهم بعد تزوير الانتخابات في نيجيريا؛ اما زيمبابوي فقصتها غنية عن الذكر.

اما البلدان التي يسيطر فيها حزب اغلبية عرقية على الحكم، وهي اقلية، كموزمبيق وناميبيا، فالانتخابات «نزيهة» لأن النتيجة معروفة مقدما، ولا حاجة للتزوير، ففي افريقيا لا تنفصل السياسة عن التركيبة القبلية.

ساسة افريقيا لا يوجعون دماغهم ببرامج للاقتصاد والصحة الضرائب بل يخوضون الانتخابات بحسابات العواطف القبلية (عرقية، أو دينية طائفية، او ايدولوجية) برفع شعارات براقة (مثلا لم يسأل صحفيو الفضائيات الاخوان عن سياسة اقتصادية بالأرقام كترجمة لشعار «الاسلام هو الحل»؛ او يسألوا القومجية الناصريين لترجمة شعارهم «الوحدة العربية والتصدي لإسرائيل» الى برنامج اقتصادي سياسي في انتخابات 2005 في ثاني اكبر بلدان افريقيا). وتتلاشى اهمية تناول الرئيس للاقتصاد او البرنامج الانتخابي امام حسابات الولاء، حيث تصبح الانتخابات كالإحصاء؛ فالأصوات التي يجمعها مرشح تساوي عدد المصوتين من ابناء قبيلته.

كينيا تاريخيا اقل تأثرا بالصراعات القبلية من جيرانها وأفضلهم اقتصاديا (7% معدلات نمو) وتلقت من بريطانيا ما يفوق ثمانية مليارات جنيه (16 مليار دولار) منحا منذ استقلالها 1963.

حريتا الصحافة والتعبير اليوم غير مسبوقتين، بعد ملاحقات الرئيس السابق دانييل آراب موي (1978 ـ 2002) وقبضته المتشددة عقب محاولة انقلاب قادة الطيران الفاشلة 1982.

ومستوى المعيشة في المدن مستمر في الارتفاع بنمو طبقة متوسطة على درجة عالية من التعليم والثقافية، مما بشر بإفلات السياسة من قبضة الولاءات القبلية، التي تسيطر على السياسة في معظم انحاء القارة. لكن يبدو ان التفاؤل كان مبكرا بأن يختلف الرئيس كيباكي عن غيره من زعماء افريقيا، الذين لا يقبلون ان شعوبهم شبعت من رؤية وجوههم كل صباح على الصفحات الاولى، وكل مساء على شاشة التلفزيون. لم يكن كيباكي من المرشحين لعضوية نادي موغابي للديكتاتورية الافريقية، فهو هادئ الطبع، غير غوغائي في السادسة والسبعين، انجليزي التعليم؛ حصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من الدرجة الاولى من كلية لندن للاقتصاد. وإذا كان كيباكي خريج واحدة من جامعات أم الديموقراطيات، يرفض مد يده لفتح باب الخروج الذي اشار الناخب اليه، ولا يصدق ان الأمة ستحيا من دونه، فلا امل اذن في ترك بقية زعماء افريقيا من رتبة ملازم فما فوق، لنادي موغابي للديكتاتورية الافريقية والالتحاق بناد افريقي آخر مغمور لهدوئه الشديد، وندرة اعضاء الباقين على قيد الحياة. نادي الافارقة الديموقراطيين الذين تخلوا عن الحكم طواعية لمؤسسه الراحل اللواء محمد نجيب، الذي اغضب ما يسمى بمجلس قيادة الثورة عام 1954 بقوله «كفاية يا ولاد.. الانقلاب نجح والملك رحل، فلنعد لمهمتنا في الدفاع عن الامة، ونترك الحكم للمتخصصين»، واستقال كأول رئيس لمصر. النادي يضم حاليا ثلاثة اعضاء فقط: نلسون مانديلا، ورئيس زامبيا السابق كينيث كاوندا، الذي اختار صرف المعاش الحكومي بعد خسارة انتخابات 1991؛ ورئيس السنغال السابق محمد عبده ضيوف، الذي استقال طواعية عام 2000.

امام كيباكي امتحان علي سالم لدرجة بكالوريوس في حكم الشعوب: العضو الرابع في النادي الديموقراطي مع مانديلا وكاوندا وضيوف؛ أو منصب نائب رئيس نادي موغابي للديكتاتورية.