بلجيكا الى أين؟

TT

لا يمكن اعتبار الازمة التي تعيشها بلجيكا حالياً والمتمثلة في الخلاف الحاد بين طائفتي الفلمنك (الاكثرية) والوالونيين (اقلية) حالة خاصة، اذ ان تاريخ القارة الاوروبية وحتى حاضرها عرفا كثيراً من الازمات المشابهة، اي النزاع بين اكثرية واقلية. واذا ما رصدنا تطور هذه الازمات لأمكننا وضعها ضمن الحالات التالية:

اولاً: ازمات وجدت حلاً لها بعد طول معاناة، والمثال الابرز على هذا النوع الحرب التي كانت دائرة بين طائفتي البروتستانت (اكثرية) والكاثوليك (اقلية) في ايرلندا الشمالية. فالبروتستانت عملوا على ان تبقى ايرلندا الشمالية مرتبطة ببريطانيا، في حين هدف الكاثوليك الى طرد البريطانيين منها والانضمام الى الجمهورية الايرلندية. لقد اتفق المراقبون على تسمية هذا النزاع المسلح «الحرب القذرة» لشدة ما عانى المواطنون من الطائفتين من ويلاته. منذ سنوات قليلة تم الاتفاق على تسوية هذا النزاع على اساس تقاسم السلطة المحلية بين الطائفتين والتخلي عن الاهداف الخاصة.

ثانياً: ازمات متفجرة؛ وابرزها النزاع المسلح بين اقليم الباسك بقيادة منظمة «ايتا» والحكم المركزي في مدريد. يطالب الباسكيون بالاستقلال عن اسبانيا والحكومة ترفض ذلك. مع الاشارة الى ان عمليات «ايتا» العسكرية بدأت منذ تبني الدستور الاسباني الجديد عام 1978، على اثر انهيار الحكم الجنرال فرانكو. لقد جرت محاولات كثيرة من الحكومات الاسبانية المتتالية، اشتراكية ويمينية، لإيجاد تسوية لهذا النزاع لكنها فشلت جميعها وما زالت العمليات العسكرية لهذه المنظمة تزعزع الاستقرار في اسبانيا.

ثالثاً: ازمات وجدت حلولاً لها لكن لم تطبق حتى الآن كما هو حاصل في اقليم كوسوفو الذي تقطنه غالبية ألبانية واقلية صربية، لكنه يخضع للسلطة الصربية التي ترفض استقلاله. لقد دارت حروب عديدة على ارض كوسوفو الى ان وضع تحت ادارة الامم المتحدة سنوات عدة، وأوصى المندوب الاممي اخيراً في تقرير قدمه الى مجلس الامن الدولي، باستقلال الاقليم لكن بلغراد رفضت. وهكذا بقي الوضع في الاقليم عرضة للتجاذبات الدولية وخصوصاً الاوروبية والاميركية من جهة والروسية والصربية من جهة اخرى.

واذا كانت هذه النزاعات وسواها يجمعها هدف واحد هو الاستقلال، فان اسبابها متنوعة منها العرقي والديني والاقتصادي. وقبل التطرق الى الوضع في بلجيكا، لا بد من الاشارة الى الملاحظتين التاليتين:

اولاً: يرتدي الخلاف بين الطائفتين الكبيرتين في هذا البلد طابع الدفاع عن اللغة الفلامنكية. هذا هو الظاهر، إلا ان الهدف النهائي هو الوصول الى التقسيم والاستقلال.

ثانياً: تتميز الازمة في بلجيكا، عن باقي الازمات الاوروبية، بأن الاكثرية (الفلامنكية) هي التي تطالب بالتقسيم والاستقلال.

يعود نشوء بلجيكا الموحدة الى عام 1830، وفي عام 1963 جرى التبني لدستور جديد وتحول نظام الحكم الى اتحاد فيدرالي، يقوم على الاسس التالية:

ـ يتألف الاتحاد الفيدرالي البلجيكي من ثلاث مناطق: منطقة الفلاندرو ويقطنها الفلامنكيون، منطقة الوالوني ويقطنها الفرنكفونيون، ومنطقة بروكسيل وضواحيها حيث توجد اكثرية فرنكفونية تحيط بها اكثرية فلمنكية.

في هذا الاتحاد ثلاث طوائف هي: الفلمنك (اكثرية بحدود 60 في المائة)، فرنكفونية (بحدود 40 في المائة)، ومجموعة المانية صغيرة.

ـ تتوزع الصلاحيات في هذا الاتحاد حسب مستويات ثلاثة:

* صلاحيات الحكومة الفيدرالية: النقد الوطني والأمن الداخلي والمحاكم والدفاع والسياسة الخارجية والضمان الاجتماعي.

* صلاحيات الحكام المحليين (المناطق): الشؤون الاقتصادية وشؤون البيئة والتنمية المحلية والعمالة (التوظيف).

* صلاحيات الطوائف: التعليم والثقافة والصحة والراديو والتلفزيون والرياضة.

يرى المراقبون ان عمل هذا النظام بشكل جيد يتطلب كثيراً من الوعي والدقة والشفافية. توزيع الصلاحيات بهذه الطريقة المعقدة يجعل ايَّ خطأ بسيط عرضة للاستغلال من فئات او مجموعات طائفية ومحلية، ان لجهة تضخيمه وان لجهة زرع بذور التفرقة بين مكونات المجتمع. ويؤدي ايضاً الى نشوء تيارات سياسية متطرفة، تنمو سريعاً ويصبح بمقدورها فرض آرائها وتوجهاتها في عمليات الاقتراع على المستويين المحلي والفيدرالي. واكدت نتائج الانتخابات الاشتراعية التي جرت في العاشر من يونيو (حزيران) الماضي هذا الرأي اذ اصبحت تيارات اليمين واليمين المتطرف في القسم الشمالي (منطقة الفلاندر)، هي الحكم في عملية تأليف حكومة فيدرالية جديدة. وبعد ظهور نتائج هذه الانتخابات، كلف الملك البرت الثاني، وحسب الدستور الفيدرالي، رئيس حزب المسيحيين الديمقراطيين ايف لوتيرم المتحالف مع احزاب اليمين واليمين المتطرف في الفلاندر. ففشل لوتيرم في مهمته واعتذر في اغسطس (آب)، لكن الملك اعاد تكليفه أواخر سبتمبر (ايلول).. وحتى الآن لا حكومة جديدة في بلجيكا.

يعتبر لوتيرم من الفلامنكيين المتشددين المطالبين بالمزيد من الامتيازات لمواطنيه. وقبيل الانتخابات قال اريد ان اكون واضحاً، حزبي لن يشارك في حكومة بعد الانتخابات الا اذا كان هناك نقل جديد للصلاحيات من الحكومة الفيدرالية الى المناطق. ان تشكيل حكومة فيدرالية يأتي بالدرجة الثانية بالنسبة الى مصالحنا كفلامنكيين».

عقدت لجنة الداخلية في البرلمان البلجيكي جلسة صادقت خلالها على مشروع قانون يقضي بتقسيم الدائرة الانتخابية في بروكسيل وضواحيها رغم معارضة النواب الفرنكفونيين لهذا المشروع وانسحابهم من الجلسة، باعتبار ان تطبيقه يحرم حوالي 150 الف مواطن فرنكفوني يقطنون في احدى مناطق بروكسل وضواحيها حق الاقتراع لمرشحيهم الفرنكفونيين ويقطع العلاقة بينهم وبين بروكسل العاصمة، في حين يرى الطرف الآخر ان هذا الاجراء هدفه تأكيد الوحدة اللغوية والسياسية لمناطق الفلاندر.

اذاً اصبح على لوتيرم للنجاح في تأليف حكومة جديدة، معالجة قضيتين: الاولى المحافظة على حقوق الاقلية الفرنكفونية التي تقطن في ضاحية بروكسل، والثانية نقل المزيد من صلاحيات الحكومة الفيدرالية الى المناطق. ولا ينحصر الخلاف بين هاتين الطائفتين في هذه القضايا، بل يتعداه الى ميادين اخرى منها الميدان الاقتصادي حيث يسهب الفلامنكيون في تناولهم الاوضاع الاقتصادية السائدة في بلجيكا، فسنوياً يتم تحويل اكثر من عشرة مليارات اورو الى مناطق الجنوب من موازنة الدولة العامة لتنميتها، ورغم ذلك فان البطالة متفشية فيها، اذ تتجاوز 12 في المائة، وتصل بعض الاحيان الى حدود 18 في المائة وفي بعض المناطق الى حدود 30 في المائة. في حين انها لا تتجاوز 5 في المائة في الشمال. ورغم ان مساحة مناطق الشمال اصغر من مناطق الجنوب، فان الناتج الوطني لهذه الاخيرة لا يتجاوز 25 في المائة في الناتج القومي العام، وفي مناطق الشمال هو بحدود 57 في المائة. والنتيجة لهذا الوضع كما يراها الفلامنكيون هي: إما الاحتفاظ بالمال وإما الحصول على النفوذ، ويضيف الفلامنكيون: لا يرغب الفرنكفونيون لا خسارة المال ولا خسارة النفوذ...

وتتسع الهوة بين الطرفين وتتجاوز الوقائع المادية لتصل الى المشاعر، فالفرنكفونيون يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وانهم اقرب الى فرنسا من بلجيكا، حتى ان البعض منهم يحتفل بالمناسبات الفرنسية ويردد النشيد الوطني الفرنسي. اما الفلامنكيون فيتطلعون إلى ناحية هولندا التي تتحدث لغتهم ويرون فيها الحصن الذي يصون هذه اللغة من الزوال، ويحلمون بالانضمام اليها لتتعزز مكانتهم في الساحتين الاوروبية والدولية.

في مايو (أيار) الماضي، وقبل الانتخابات الاشتراعية، كتب فرنسوا بيران، استاذ القانون الدستوري في جامعة لياج البلجيكية، مقالا جاء فيه: «للوصول الى الانفصال، يجب حصول ازمة حكومية طويلة الامد تجعل من المستحيل تأليف حكومة على المستوى الفيدرالي. عندها ينفد صبر الفلامنكيين ويجدون ان الضرورة الشرعية تتيح لهم اعلان الانفصال، ويؤكدون ان الخطأ يقع على الطرف الآخر». وهكذا يصبح السؤال: «بلجيكا الى أين؟» مشروعاً.

* كاتب لبناني