من الأحق بمصاهرة بحر زائغ العينين؟!

TT

نحن أمام قضية متشعبة الأطراف يتجاذبها سعوديون، وسودانيون، ويمنيون، وآخرون، وقبل أن نخوض في جدلها فإن الأمر يحتاج إلى شيء من التقديم.. فلقد ظن أجدادنا وليس كل الظن إثما أن لبحرهم شيئا من سماتهم، فهو: يحب، ويكره، ويوفي، ويغدر، ويتزوج، ويطلق، ولربما ينجب أيضا.. وإذا كان قدماء المصريين اعتادوا تقديم فتاة جميلة للنهر قربانا كل عام باسم عروس النيل، فإن أجدادنا من ـ باب الخيال والمداعبة ـ آثروا أن يقدموا لبحرهم ـ طوال العمر ـ مدينة جميلة ليتزوجها فيهدأ، ويخمد، ويستقر، ويسكن، ويركد، فتغدو مراكبهم وتروح على ظهره في سلام!

ومنذ أن وعيت على الدنيا، وأنا أعرف أن مدينة جدة هي عروس البحر الأحمر، حتى أن المرة الوحيدة التي طردت فيها من الفصل، مارست الاحتجاج فيها على معلم عربي كان يدرسنا الجغرافيا، فأراد أن ينتقم من شقاوتنا الطفولية بجرح مشاعر عشقنا نحو هذه المدينة، وكتب على السبورة: «إن جدة تقع على مستنقعات البحر الأحمر»!

وخلال عيد الأضحى المبارك تلقيت تهنئة من صديق صحافي عزيز من أبناء الضفة الأخرى من البحر «السودان»، يذكرني بذات مقال جئت فيه على ذكر عروس البحر الأحمر، ويشير ـ من مهجره اللندني ـ إلى أن عروس البحر الأحمر هي مدينة «بور سودان»، وليس جدة، فذهبت احتكم إلى صديق يمني مثقف، فلم يدعني أتمهل حتى قال: «ليس جدة أو بور سودان عروس البحر الأحمر، ولكنها عدن يا صديقي، فهي العروس التي احتضنت غربة هذا البحر منذ أن أتاها مهاجرا بمياهه من المحيطات ـ ذات يوم بعيد ـ يحمل وعثاء السفر ليستقر على شاطئها».. فجأة أحسست أن الأمور قد ازدادت تعقيدا، وأن سر هذا البحر الداهية قد تكشف، فله زواجات معلنة و«مسيار» في كل بلد يمر به من باب المندب إلى قناة السويس، فالسودانيون يطلقون على «بور سودان» لقب عروس البحر الأحمر الأحمر، واليمنيون يفعلون ذلك مع عدن، ولربما نظر الإرتريون إلى مدينتهم «مصوع» بمثل هذا المنظور، وهكذا.. وأمام هذه الإشكاليات، وبعد أن تقاسم هذا البحر كل هذا العدد من الزوجات، رحت أقنع نفسي بأن جدة تظل هي «أم العيال»، والأكثر حظوة لدى هذا البحر زائغ العينين، متقلب العاطفة، حتى أنني حينما مررت بجوار البحر في جدة آخر مرة، ووجدت الأسوار على شاطئه تتعالى لتخنقه خلفها، لم أحزن كما تعودت أن أفعل، ومددت له لساني ومضيت.

[email protected]