إمام المفسدين

TT

ما من جديد في الرشوة والفساد. هكذا كان الأمر في كل العهود وكل الدول. وكانت الوظائف وحتى الرتب العسكرية تباع وتشترى في الشرق والغرب. نال سمعة عالية في هذا الخصوص السياسي البارع موريس تاليران في فرنسا. استطاع بنفاقه ودجله واستعداده للفساد أن يبرز ويترأس في كل العهود الملكية والثورية والجمهورية التي توالت على بلاده. مهما تغيرت الأحوال والانظمة تراه جالسا في القمة. وصفته يوما الظريفة الفرنسية دوستال فقالت إنه يشبه تماما الدمى الصغيرة التي يلعب بها الاطفال وتمثل العساكر. رؤوسها من الفلين الخفيف ولكن أرجلها من الرصاص. مهما تقلبها وتضعها فإنها تعود فتقف على قدميها! علق على حياته أحد المؤرخين فقال: «لقد باع تاليران كل من اشتروه» أنه بدون شك إمام المرتشين والفاسدين في العالم بدون منازع، إذا جاز لي القول واستثنيت السادة الذين ظهروا مؤخرا على مسرح السياسة والادارة في العراق. وفي مركزه هذا أعطى تاليران هذه الموعظة لرعيته من المرتشين عندما تراكمت عليه الاتهامات. قال: «لا تحتاج لأي ذكاء لتنجح في الحياة وتجمع الثروات. ما يلزم لك هو التخلي عن الرفعة ومكارم الاخلاق».

تمكن بدجله ونفاقه وفساده أن ينال أعلى الرتب والمكرمات. كان منها ما جاد به عليه الملك لويس الثامن عشر عندما انعم عليه بوسام «جزة الكبش» الذهبي، أعلى اوسمة الشرف الفرنسية. علق على ذلك احد زملائه فقال: «إنه مكافأة له على كل الأغنام التي جزها».

لم يتردد حتى في استخدام زوجته في خدمة مطامحه. تركها ألعوبة بيد الدوق دوسان كارلو. سمع بذلك نابليون فقال له أمام الملأ: «لم تذكر لي يا مسيو تاليران أن زوجتك عشيقة الدوق دوسان». فأجابه قائلا بكل برود: «انا لم اعتقد يا سيدي الامبراطور أن مثل ذلك الخبر شيء مهم بالنسبة لعظمة جلالتكم».

كانت امرأة جميلة ولكن في غاية الغباء. فالظاهر ان رئيس الحكومة الفرنسية قد اختارها لتمتعها بهاتين الصفتين. قال بعد وقوعها في شتى المطبات والمواقف المحرجة: «لقد اخترتها لقلة ذكائها. فالمرأة الذكية تورط زوجها بسهولة. ولكن المرأة الجاهلة لا تورط سوى نفسها».

شاعت أنباء فساده وارتشائه بين الجمهور دون ان يعيرها اي اهتمام. هكذا علق المسيو بريفو، أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية على نبأ وفاته، فقال إنه لما وصل تاليران الى جهنم قابله الشيطان فقال له: انا مسرور بلقائك ثانية. ولكن لا بد من الاعتراف بأنك قد تجاوزت تعليماتي.

رغم كل مفاسده وسمعته السيئة فإنه عاش، كمعظم الفاسدين والمتفسخين، معززا مترفا . بل واكثر من ذلك مات ايضا كذلك في عز وسؤدد. فعلى فراش موته كان بين عواده المحيطين به الملك لويس فيليب نفسه.

وكان يعاني من آلام شديدة، فتمتم قائلا للملك: «مولاي انني أتألم كالهالكين». فرد عليه الملك قائلا: «منذ الآن؟!».