أوراق اللعبة في يد العرب

TT

كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات يقول إن تسعة وتسعين في المائة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط هي بيد الولايات المتحدة الأميركية. وعشية زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى المنطقة العربية، أقول إن تسعة وتسعين في المائة من أوراق اللعبة والحل في الشرق الأوسط هي اليوم بيد العرب.

بداية، يجب ألا نعوّل كثيرا على زيارة الرئيس بوش إلى المنطقة. فزيارات الرؤساء غالبا لا ينتج عنها شيء. ولكنها تعطي زخما إعلاميا وسياسيا قد يستثمر في اتجاه التوصل إلى حلول لمسائل عالقة، أو قد لا يستثمر ويظل ما هو عالق عالقا. فهل يستطيع العرب استثمار زيارة بوش لقلب الطاولة؟ أي أن يقوم العرب بموقف درامي يلقي بالمسؤولية في الملعبين الأميركي والإسرائيلي. موقف كهذا يتطلب الكثير من الجرأة التي قد تصل إلى حد التفكير في ما يعتبر محرمات في سجن الكلام الذي نسجه العرب حولهم.

الحقيقة أن هناك مبادرة عربية جدية للسلام، ولكن مصداقية هذه المبادرة بالنسبة للغرب وإسرائيل محدودة. بمعنى أن ترجمة النوايا العربية نحو السلام لم تصل إلى الغرب، خصوصا أميركا وإسرائيل. فهم ما زالوا غير مصدقين بنية العرب في السلام، بل إن الكثير منهم متشككون. فالرواية الإسرائيلية هي المسيطرة، إذ يقول الإسرائيليون للأميركان والغرب، لقد دخلنا في سلام مع دولتين عربيتين، هما مصر والأردن، والتجربة أثبتت فشلها، لأن كراهية إسرائيل ما زالت قائمة في البلدين.

السؤال القوي الذي يطرحه الإسرائيليون في الغرب، والذي يجد بالتأكيد آذانا صاغية: ما هو المردود الاستراتيجي لدولة إسرائيل في تحقيق السلام مع العرب بعد فشل التجربة مع كل من مصر والأردن؟

العبارات التي يرددها أصدقاء إسرائيل في المجتمعات الغربية، ملخصها أن العرب يريدون حالة «لا زواج ولا طلاق» مع إسرائيل، أي يريدون إبقاء الأمور معلقة. إذن، كيف يجيّر العرب زيارة الرئيس الأميركي إلى كل من المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات ومصر، لتغيير هذه الصورة وكسب الرأي في أميركا والغرب لصالحهم؟

تصريحات بوش واضحة في ما يخص رؤيته بإقامة دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، جنبا إلى جنب، وباحتواء إيران من أجل استقرار الخليج وتغيير الصورة في المنطقة حول ما فهم من تقرير الاستخبارات الأميركية الأخير حول خطورة البرنامج النووي الإيراني. ليس خافيا أن ملفي العراق وفلسطين يمران عبر إيران وسورية، فإذا كان الرئيس بوش يريد عزل إيران، فالمفتاح العربي لهذا العزل هو بفك اللحمة السورية ـ الإيرانية، بعودة سورية إلى الصف العربي، هذا يعني إدخال سورية في المعادلة والبحث عن الحل. خصوصا أن الحل على المسار السوري ـ الإسرائيلي معروفة ملامحه تماما. فالسوريون منذ لقاء جنيف مع الأميركيين في عام 1999 يعرفون ما الذي يريده الإسرائيليون، وكذلك الإسرائيليون يعرفون ما الذي يريده السوريون. السوريون يريدون الوصول إلى مياه بحيرة طبرية. الاتفاقات الدولية بخصوص المسار السوري ـ الإسرائيلي، عادت إلى الحدود الدولية مع الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1923، ولكن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أصر في جنيف على حدود ما قبل الرابع من حزيران (يونيو) عام 1967، غاية الأسد كانت أن يكون لسورية قدم في بحيرة طبرية، لكن مفاوضيه قالوا له وقتئذ بأنه حسب حدود 1923 هناك عشرة أمتار تفصل سورية عن البحيرة، يومها رد الأسد، حسب محاضر الاجتماع، «لكن لم يكن هناك يهود يفصلون بين سورية والبحيرة». المهم في هذا كله، وحسب الإشارات الإسرائيلية الأخيرة، أن الحل ممكن وسهل بين سورية وإسرائيل. فماذا لو افترضنا أن زعيما عربيا ما أو أكثر ممن سيلتقيهم الرئيس الأميركي جورج بوش في جولته القادمة إلى المنطقة، قاموا الآن بترتيب سريع لدعوة الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود أولمرت إلى اجتماع معهم بحضور الرئيس بوش، وليكن الاجتماع في مصر أو أبو ظبي مثلا. هذه هي الدراما التي قد تغير الرأي العام في الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل حول جدية العرب في السلام، وقد تغير الحوار برمته. ففي الولايات المتحدة الأميركية انتخابات رئاسية تشكل الوعي الأميركي، وحدث كهذا سيقحم نفسه على كل المناظرات الرئاسية مما يقنع الشعب الأميركي بجدية الطرح العربي. نفس الشيء قد يحدث في إسرائيل مما يشجع ايهود باراك وزير الدفاع الحالي الذي دعا أصلا إلى انتخابات مبكرة. وهذا ما عنيته بأن تسعة وتسعين في المائة من أوراق اللعبة في يد العرب. فالديموقراطيات تخضع لمثل هذه المبادرات السياسية لأنها تحدث ضغطا شعبيا في بلادها، وهذا ما أدركه السادات واستغله أحسن استغلال. أعرف أن بيننا الكثير ممن يكرهون السادات، ولمجرد تفكير بعض زعماء العرب بأنهم سيفعلون ما فعل السادات قد يكون سببا كافيا لئلا يتحركوا في الاتجاه الذي تحرك فيه. هذا ليس لأن السادات كان سيئا، ولكن لأن هناك جهات نجحت في جعل السادات خائنا في الذاكرة الجمعية العربية، لذا أصبح التخوين قيدا يمنعنا من القيام بأي خطوة جريئة.

الحقيقة التي يقولها العالمون بخفايا زيارة بوش للمنطقة، هي أن الغاية الأساسية لجولته هي زيارة المملكة العربية السعودية، لما لها من ثقل في العالمين العربي والإسلامي، ولما لها أيضا من وزن عالمي، في وقت وصل فيه سعر برميل النفط إلى ما يقرب المائة دولار، إضافة إلى العلاقة الخاصة بين الرئيس بوش والملك عبد الله. حيث لا يتردد الرئيس بوش في أي من أحاديثه بالإشادة بشخصية الملك عبد الله كرجل يحترم كلمته وكزعيم ذي مصداقية عالية. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يستغل العرب تلك العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة بين الملك عبد الله والرئيس بوش لتعظيم مصالحهم؟ المطلوب إذن هو تنسيق عربي مع السعودية، بما في ذلك سورية، واستغلال هذا اللقاء ليكون هو الأصل في القضايا العربية العالقة، ثم تبقى زيارات بوش للدول العربية الأخرى مرتبطة بالعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وهذه الدول.

على الصعيد الفلسطيني، المطلوب هو توحيد الصف الفلسطيني تحت راية الملك السعودي بصفته راعي اتفاق مكة. وبدلا مما كان الفلسطينيون يستظلون بمظلة الأردن في السابق، فليجربوا المظلة السعودية هذه المرة. وإن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أخيرا للمملكة تسير في الخط الصحيح. فليس من المعقول في الوقت الذي بدأ فيه العالم يجمع على عدالة القضية الفلسطينية، نجد الفلسطينيين هم من يخربون على أنفسهم بانقسامهم وتشرذمهم.

ولعله حان الوقت فعلا كي ينظر العرب، خصوصا الفلسطينيين، بشكل جاد إلى المخاوف الإسرائيلية الاستراتيجية. فالسؤال الإسرائيلي عن ماهية الدولة الفلسطينية هو سؤال منطقي ومشروع، هل ستكون هذه الدولة إضافة للاستقرار في المنطقة، أم إضافة لعدم الاستقرار؟ مثال غزة يقول إنها دولة لن تسهم في استقرار المنطقة، بينما مثال الضفة الغربية يوحي بأن الدولة الوليدة ستدفع بالمنطقة نحو الاستقرار.

أما على المسار السوري، فلا حرج في هذا الظرف التاريخي أن يرتب لذهاب الرئيس الأسد إلى السعودية أو مصر أو الإمارات، للتنسيق حول الجولان ولبنان والعراق. ربما نفهم لقاء وزير الخارجية السعودي بنظيره السوري في القاهرة أخيرا في ضوء هذا التنسيق.. قد تكون هناك صفقة القبول بعمق استراتيجي سوري في لبنان مقابل الجولان، ومقابل فك ارتباط سورية عن إيران مما يؤدي إلى استقرار كل من العراق ولبنان.. هذا في ما يخص العرب.

أما في ما يخص الرئيس بوش نفسه، فمن المهم له في هذه الجولة ألا يسعى للاجتماع بمن يسمون أنفسهم دعاة الديموقراطية في المنطقة. فدعاة الديموقراطية في العالم العربي اليوم، مصر تحديدا، كدعاة الاشتراكية بالأمس، هم ذات الأغنياء المنعمين، ليس لهم تأييد على ضفاف النيل (أو حتى الفرات) بقدر ما لهم من تأييد على ضفاف الباتوميك (النهر الأميركي الذي يفصل واشنطن العاصمة عن ولاية فرجينيا). شعوبنا هي حتى الآن غير منظمة، لا أحزاب حقيقية تمثلها، حلمها في مرحلة فوضى العراق هو الأمن والاستقرار. أعرف أن هذا الكلام قد يكلفني الكثير، ولكن الحقيقة لا بد أن تقال.

كما أسلفت، زيارات الرؤساء لا تحقق نتائج فورية، لكن جورج بوش رجل عملي استطاع أن يفرض على الفلسطينيين والإسرائيليين وثيقة أنابوليس، رغم أن الطرفين صرحا قبيل المؤتمر بأنهما لم يتوصلا إلى اتفاق. يستطيع العرب أن يجعلوا من زيارة بوش زيارة تاريخية بالتركيز في التعامل مع الجانب البراغماتي في شخصية الرئيس الضيف، بدلا من الطريقة العربية القديمة التي تضيع الوقت المخصص للقاءات في الدخول بمتاهات تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي والتذمر من «الكيل بمكيالين».. أوراق اللعبة اليوم لدى العرب، فهل سيحسنون استغلالها؟ هذا هو السؤال.