الوطن أولا

TT

في مقالتي السابقة عن موريس تاليران، وزير الخارجية الفرنسي في عهد الثورة، كيف كان رجلا فاسدا، نسوانيا ومرتشيا ومنافقا ومتقلبا، ولكنه وضع مصلحة بلاده فوق كل شيء وقدر له ان يضع أسس الدبلوماسية الفرنسية التي مازالت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تراعيها حتى اليوم. أسوق حكايته كدرس لشتى المسؤولين في بلادنا العربية.

اعتمده نابليون وزيرا له. وشاء له، أي الامبراطور، أن يتبع السياسة الدبلوماسية التقليدية باتخاذ الزواج وسيلة للتحالف وكسب الأنصار، وهو ما يفعله الكثير من شبابنا للحصول على وظيفة أو منصب. رأى الامبراطور انه إذا تزوج ابنة القيصر الكساندر، قيصر روسيا، فإنه سيضمن معاضدة روسيا له في حملاته وسياساته. بعث بوزير خارجيته ليفاتح القيصر بذلك. رحب القيصر بالفكرة، أن يرى ابنته تتزوج بنابليون الجبار الذي دانت له كل القارة الاوروبية. عمل حفلة كبرى في بتروغراد ليعلن فيها الخطوبة المرتقبة. ولكنه أثناء ذلك اختلى بتاليران ليستأنس برأيه في الموضوع. هل يرى في قرارة نفسه ان مثل هذا الزواج سيكون مفيدا ومجديا؟ أجابه تاليران «كلا». قال له إن أيام نابليون معدودة وسرعان ما يسقط، وعندئذ ستجد نفسك وابنتك في هذا المأزق. استمع القيصر لهذا النصح الحصيف فصرف رأيه عن تزويج ابنته للامبراطور. ولم تعلن الخطبة.

اكتشف نابليون ما فعله به وزير خارجيته. فما أن التقاه حتى انهال عليه بالشتائم والتقريع بأفظع الألفاظ: أنت حرامي، وكافر ومخادع وخائن ومستعد لأن تبيع والدك من أجل أي شيء. أنت لست سوى كومة من الغائط في منديل حريري. الإشارة الى الحرير تومئ الى نشأة تاليران وأصله؛ فقد كان أميرا من أمراء الارستقراطية الفرنسية. انهال عليه هكذا بالقذف والشتائم أمام الملأ. ولكن تاليران وقف مبتسما يسمع كل ذلك من دون اي اكتراث. انتظر حتى خرج الامبراطور بونابارت من القاعة، فتمتم بصورة عرضية «يا للأسف. رجل عظيم مثله قليل الأدب!».

تصوروا لو أن طارق عزيز فعل مثل ذلك مع صدام حسين! لم يقطع نابليون رأسه. لا، بل استمر في استخدامه وزيرا له. فنابليون كان يعرف حاجة فرنسا ومصلحتها في الاعتماد على العبقرية السياسية لتاليران. بقي وزيرا للخارجية. وبعين الوقت كان تاليران قد وضع مصلحة فرنسا قبل كل شيء في نصيحته للقيصر؛ فبعد أشهر قليلة تحققت نبوءته وهزم نابليون في معركة واترلو واعتقلوه وبعثوا به سجينا الى جزيرة سان هلينة.

اجتمع زعماء الدول الاوروبية لإعادة تنظيم القارة وتقرير ما يفعلونه بالدولة المعتدية، فرنسا. وفي هذا المعترك وجد المفاوض الفرنسي حليفا له في روسيا. فقد تذكر القيصر نصيحة تاليران له وشعر بالدين له ولبلاده. فأوعز للمندوب الروسي بدعم الموقف الفرنسي.