العنف الديني: الغرائز البدائية تنتهك قداسة العيد

TT

السياسة منذ التاريخ المعروف هي فن إدارة الناس. في السياسة، تتداخل الأخلاق والمصالح مع الآيديولوجيات ونوازع الخير وغرائز الشر. هذه التناقضات التي تنطوي عليها النفس الإنسانية لم تتغير. لهذا لم تتغير مبادئ وقواعد الممارسة السياسية.

من هنا، لا أستطيع الزعم أن جيلي كان أفضل أخلاقيا وإنسانيا في ممارسته السياسية من جيل اليوم. أعترف بأن الوعي الثقافي والاجتماعي قد تزايد وصولا إلى إرساء قواعد لحقوق الإنسان. لكن إذا كان القرن العشرون عصر الثورات الآيديولوجية الكبرى والتحرر من الاستعمار، فالقرن الحادي والعشرون يبدو حرب الثقافات والأديان، بل والحروب داخل الأديان. هذه الحروب لا منتصر فيها. هي تدور بين نظام ثابت وقائم، وأشباح وتنظيمات من الصعب الإمساك بها والقضاء عليها. لا غَلَبَة فيها للتفوق التقني العسكري. هناك استحالة ضمان أمن المواطن المدني بالقوة الأمنية والعسكرية.

لست منحازاً لجيلي. أومن بالحاجة إلى هوة بين جيل وجيل. المجتمعات التي لا تعيش ولا تعاني من فوارق الأجيال هي مجتمعات جامدة. عاش العالم العربي ألف سنة داخل قوقعة دينية شلَّت نشاطه الفكري والإبداعي والتقني. التناقضات التي نعيشها اليوم في العالمين الإسلامي والعربي هي نتيجة للهوة بين جيل العصر والأجيال المتشابهة في القرون الوسطى.

في مقدمة تلك التناقضات ظاهرة الإرهاب، الإرهاب الفردي العَدَمي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والإرهاب الديني الجماعي في نهاية القرن العشرين وبداية المئوية الجديدة. أستطيع أن أزعم ان الإرهاب الفردي كان أكثر «إنسانية» من الإرهاب الجماعي! قد تسخر عزيزي القارئ من وصفي الإرهاب بالإنسانية. فالإرهاب إرهاب في التحليل الأخير. غير أني لست بمنتصر لجيل تربى على الإيمان بالعروبة. القومية العربية. على الرغم من قمعها ولا ديمقراطيتها، لم تمارس القتل الجماعي للمجتمع المدني.

الواقع الذي لا يمكن نفيه هو أن جيل اليوم أقل مبالاة أخلاقيا وإنسانيا بقيم الحياة. لم يكن إرهاب القرن التاسع عشر دينيا. مع ذلك، لم يتناول المجتمع ككل، وإنما استهدف الطبقة السياسية، فيما يستهدف الإرهاب الديني الجماعي المجتمع بلا اكتراث وتعاطف مع أوجاع وآلام أهل الضحايا الأبرياء.

أومن بأن الإرهاب الديني مريض نفسيا وعقليا. «الجهادي» المنتحر المدمن للقتل هو إنسان تغلبت في ساحة لا شعوره غريزة القتل البدائية. لكي يفلت من عذابه النفسي فهو يمضي إلى الانتحار مع حصده ما أمكن في طريقه من أبرياء. هو في غسيل دماغه يغلّف القتل الهمجي والبدائي بغلالة الدين. هو يجد في أمراء المغاور والخرائب وأحيانا في خلايا المساجد، من يمنحه البراءة القداسية المطلقة من قتل نفسه بالانتحار ونحر الآخرين معه.

لو كان هناك إيمان حقيقي لما كان هناك إرهاب ديني. الدراسات العلمية القليلة في الغرب لظاهرة الإرهاب تكشف أن «القاعدة» بزعمائها وأمرائها ومجنديها تعاني من قصور ملحوظ في دراسة الدين. لا ابن لادن ولا الظواهري فقهاء في الدين. هؤلاء الذين يجندونهم، وبينهم الذين قاموا بعملية سبتمبر في نيويورك لم يكونوا من التقاة ممارسي الصوم والصلاة. بعض «القاعديين» الذين روّعوا أوروبا والمجتمع العربي كانوا من خريجي السجون ومرتكبي الجرائم، بما فيها الاتجار بالمخدرات، ولم يسبق لهم أن مارسوا فروض الدين.

قطاع كبير من المنادين بـ«الإسلام هو الحل» ينتقون من الدين ما يلائم مزاجيتهم، ويخالفون أول مبادئ القداسة التي تعتبر الدين منظومة مبادئ، إما أن تؤمن بها كلها وتمارسها كلها، وإما أن تهملها كلها. إذا أهملت إحدى فرائض الدين سقط عنك تدينك وفسد إيمانك.

هذا الخلل الإيماني يجيز للتنظيمات «الجهادية» أن تخفي عن سائر المؤمنين عدم تدينها، وتكتفي بإظهار ملبسها وشكلها ومنطقها الديني لمداهنة مجتمعها المؤمن والمتدين أكثر منها. بل هي ترتكب القتل والانتحار حتى في الأيام التي حرم فيها على المسلمين القتل والاقتتال.

في أيام العيد الفضيلة وما قبلها وما بعدها، أحصيت استنادا إلى مختلف المصادر عدد ضحايا «القاعدة» والتنظيمات المشابهة في العالمين العربي والإسلامي. قتل في الجزائر وموريتانيا والعراق وفلسطين (غزة) 265 إنسانا وسقط 454 جريحا ضحية العنف الديني. قتلت «القاعدة» في العراق 162 عراقيا على الأقل، و40 ضحية في الجزائر. تقاتلت «حماس» وفتح في غزة فقتل من الجانبين 15 إنسانا، فيما كانت إسرائيل تقتل 24 غزيا وتجرح خمسين آخرين، وتحتل نابلس، وتدمر منازل وتُجرِّف أراضي زراعية.

ضحايا ابن لادن و«البغدادي» أكثر بكثير من ضحايا القوات الأميركية في العام الماضي. قتل بين 16 إلى 24 ألف عراقي. مليون طفل لم يذهبوا إلى المدرسة أو الجامعة لانعدام الأمن. 4.2 مليون عراقي نزحوا أو لجأوا إلى الدول المجاورة.

عيد بأية حال عدت يا عيد؟! المشهد في العالم الإسلامي لا يختلف كثيرا. قتل المئات من الأتراك والأكراد. أمة تقتل زعماءها وأبناءها. قُتلت بنازير بوتو بعد خمسة أيام من انتهاء عيد الأضحى. قتل في العمليات «الجهادية» ضدها منذ عودتها 160 باكستانيا وسقط 520 جريحا. قتل 6500 مسلم في مقديشو الصومالية وحدها. إذا كانت بوتو «كافرة» في عرف تنظيمات «القاعدة»، فبأي دين يقتل كل هؤلاء الأبرياء، حولها؟ عالم إسلامي مريض. مريض بالعنف والقتل والانتحار. مريض بالهوس والتزمت الديني. ابن لادن والظواهري يطلان من الخرائب ليضفيا براءة الدين على جرائم القتل والانتحار.

ليست مهمة الدولة وحدها مكافحة الإرهاب الديني. الأمن لا يكفي للردع. أين الأحزاب والتنظيمات والمراجع الدينية في إدانة وتحريم القتل باسم الدين؟ أصوات دينية خافتة ترتفع بين الحين والحين من باب «رفع العتب». لا إدانة لقتل المسلمين، شيعة وسنة في العراق، لا تجريم لـ«الجهاديين» الذين قتلوا ويقتلون المئات من غير المسلمين. تنظيمات وأحزاب «الإخوان» أول من يدفن الرأس في الرمال.

لا يكفي إن يرمي الحجاج الشيطان بالجمرات. هناك شياطين في الخرائب والمغاور والمدن يعيثون فسادا وفتنة في الأرض. إذا كان رجال الدين وأحزاب الدين غير مستعدين لمقاتلة أدعياء «الجهاد» باسم الدين، فعلى الأقل عليهم إدانة قتل بنازير بوتو والقتل الجماعي للمجتمع العربي والإسلامي، بالكلمة والقول وبالصوت الصريح. وهذا هو أضعف الإيمان.