الرئيس والفيلسوف.. والسياسة الحضارية

TT

فاجأنا الرئيس نيكولا ساركوزي أثناء خطابه الأخير باستخدام مصطلح عويص بالنسبة للجمهور العام هو: السياسة الحضارية. وتوهمنا ان الفكرة له، فإذا بنا نكتشف انها للفيلسوف ادغار موران. وهذا ليس عيبا. على العكس انه ليشرّف السياسيّ ان يستفيد من أفكار الفلاسفة وتحليلاتهم في بلورة سياسته العامة وإدارة شؤون البلاد. وقديما كان افلاطون يحلم بأن الفلاسفة سيحكمون العالم، وكذلك فعل الفارابي من بعده. بالطبع فإن الأمر ظل عبارة عن فكرة طوباوية.. ويا ليت القادة العرب يفعلون مثل ساركوزي فيهتمون بالثقافة ويستفيدون من تحليلات المثقفين العرب وطروحاتهم، قبل اتخاذ قراراتهم أو بلورة سياساتهم..

لكن ما الذي يقصده الرئيس ساركوزي بالسياسة الحضارية؟ وهل سينتهجها طيلة العام الجديد 2008، أم خلال ولايته كلها؟ يبدو انه يريد ان يضع في قلب السياسة أهدافا نبيلة كدمج المغتربين، والاعتراف بالتعددية والتنوع داخل المجتمع الفرنسي، والاهتمام بالعدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق الانسان، وكذلك الاهتمام بالبيئة ومكافحة التلوث الذي يكاد يخربها ويقضي على الحضارة الحديثة. وربما كان يقصد ايضا جعل الرأسمالية المصرفية اخلاقية الى حد ما، بعد ان فلتت الأمور وأصبحت العولمة الحالية متوحشة تماما فزادت الفقير فقرا والغني غنىً.

وربما كان يقصد ايضا اعادة الاعتبار الى القيم الحضارية الأوروبية لكي تنافس القيم الأخرى، وبالأخص الأميركية، داخل العولمة الكونية. فأميركا سيطرت في السنوات الماضية اكثر مما ينبغي وطغت وبغت. وقد آن الأوان لتذكيرها بأن أوروبا هي أصل الحضارة، وهي التي خلقت الحداثة والديمقراطية. اميركا جاءت في ما بعد وقامت على أكتاف الحضارة الأوروبية ومنجزاتها. ولكن البنت سبقت أمها وتفوقت عليها.. كل هذا شيء جميل ويدعو للفرح والأمل لأول وهلة.

لكن ما هو رأي الفيلسوف ادغار موران بالموضوع؟ أليس هو مبلور نظرية السياسة الحضارية؟ في رده المباشر على ساركوزي لا نشعر بأنه متفائل كثيرا. فهو يقول بالحرف الواحد بعد ان سمع خطاب الرئيس كبقية الفرنسيين، بمناسبة التهنئة برأس السنة الجديدة: لا أستبعد ان يعيد ساركوزي توجيه سياسته في الاتجاه الصحيح، أي في الاتجاه الحضاري الذي كنت قد تحدثت عنه منذ عدة سنوات. ولكني بصراحة لا أشعر بأنه يمشي في هذا الاتجاه على الأقل حتى الآن...

ثم يتساءل الفيلسوف صاحب الكتب الشهيرة التي ربما كان بعضها قد ترجم الى العربية قائلا: ما الذي يعرفه الرئيس ساركوزي عن طروحاتي وكتاباتي؟ هل قرأها أو اطلع عليها شخصيا؟ أم ان كاتب خطاباته في قصر الاليزيه هنري غوينو هو الذي تحدث له عنها فأعجبته؟ لا أعرف..

مهما يكن من أمر فإن الفيلسوف ادغار موران كان قد نشر عام 2002 كتابا بعنوان: من أجل سياسة حضارية. وفيه ينطلق من الفكرة الأساسية التالية: اذا كانت الحضارة الغربية قد ولَّدت أشياء جميلة وخيّرة ورائعة فإنها ولَّدت أيضا أشياء سيئة، بل تزداد سوءا أكثر فأكثر. وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: كيف يمكن ان نتحاشى مساوئ الحضارة الغربية وأضرارها، في الوقت الذي نحافظ على ايجابياتها العظيمة وإنجازاتها؟ ويرى موران ان الغرب يعيش الآن أزمة حضارية عميقة. وبالتالي فليس العالم الاسلامي هو وحده المأزوم وإنما الغرب ايضا، ولكن بطريقة اخرى أو لأسباب أخرى مختلفة تماما. ولكي يخرج الغرب من هذه الأزمة لا بد من اتباع سياسة حضارية وإنسانية تتضامن مع الانسان في الداخل والخارج، أي في كل مكان. وسبب هذه الأزمة الحضارية عائد الى انقلاب فتوحات الحضارات الغربية وإنجازاتها الى عكسها. فمثلا النزعة الفردية التي كانت تعني في البداية حرية الانسان وتفتحه وازدهاره تحولت الى أنانية انعزالية وتقوقع على الذات. وهكذا اصبح الناس غرباء عن بعضهم بعضا وغير قادرين على التواصل، على الرغم من انهم يعيشون داخل نفس الحي أو حتى نفس البناية. ولم يعد أحد يتضامن مع أحد وإنما كل واحد يقول: اللهمَّ اسألك نفسي. وهذا هو المعنى السلبي للحرية الفردية.

هناك قيمة أخرى في الحضارة الغربية تحولت الى عكسها هي: التكنولوجيا والصناعة. صحيح انها حررت الانسان من بذل جهود عضلية ضخمة كان يقوم بها في السابق بعد ان اصبحت الآلات تقوم بالعمل محله. لكنها في ذات الوقت استعبدت المجتمع وأخضعته للمنطق الحسابي الكمي لهذه الآلات بالذات. يضاف الى ذلك ان الصناعة التي أشبعت الحاجيات الاستهلاكية لملايين البشر أصبحت الآن عالة على البشرية لأنها تؤدي الى تلويث الجو والبيئة فنكاد نختنق.. بل حتى العلم نفسه انقلب الى عكسه! صحيح أنه أدى الى صنع حضارة مزدهرة لم يشهد لها التاريخ مثيلا من قبل. ولكنه لم يعد يعرف كيف يتوقف عند حد معقول في التطور.. وهكذا كشف عن وجه آخر مقلق ومخيف: ألا وهو امكانية تدمير البشرية عن طريق القنبلة الذرية أو الأسلحة الكيماوية والبيولوجية أو التلاعب بالمكونات الوراثية للانسان، من أجل تشويهه عن طريق الاستنساخ أو سواه. هكذا نجد ان أزمة الحضارة الغربية ناتجة عن شطط العلم أو تخمة العقل، هذا في حين ان أزمة العالم الاسلامي ناتجة عن شطط الغيبيات والتعصب الديني وقلة العقل أو حتى انعدامه لدى الجماعات المتطرفة. ويا لها من مفارقة: أزمتان كبيرتان ولكنهما ناتجتان عن السبب ونقيضه!

لم تعد هناك أي قيمة في الغرب إلا لما له مردود اقتصادي، ربحي، مادي، مباشر. كل ما لا يمكن تحويله الى سلعة أو حسابات كمية لا معنى له. وهكذا انتصرت الكمية على حساب النوعية. ولكننا نعلم ان الحب، والعذاب، والبهجة، والمتعة، والحماسة، وحتى الشعر هي أشياء غير قابلة للحساب الكمي. فهل يعني ذلك انه لا معنى لها؟ ألم تفقد الحضارة الغربية صوابها، إذ حولت كل شيء الى سلعة تباع وتشترى؟ ألم يحصل التقدم العلمي والتكنولوجي على حساب التقدم الروحي والأخلاقي والإنساني للبشرية؟ لقد آن الأوان لتصحيح هذا الخلل الذي أصاب الحضارة في صميمها.. صحيح انهم قضوا على التعصب الديني والأصولية الظلامية في الغرب. وهذا انجاز رائع يحسدون عليه. ولكنهم في ذات الوقت قضوا على الروحانيات نفسها أو على كل تساؤل ميتافيزيقي، ما ورائي، يتجاوز الماديات..

وأخيرا نقول: نعم يا مسيو ساركوزي نحن مع سياسة حضارية ذات وجه انساني. وفكرتك عن الاتحاد الأوروبي ـ المتوسطي التي أعلنت عنها عشية انتخابك هي فكرة عظيمة وجميلة. ولكن لتحقيقها لا يكفي ان تفكر بمصالح شعبك أو بالأحرى الطبقات العليا من شعبك، وإنما ايضا بمصالح الشعوب المحرومة الجائعة على الضفة الأخرى من المتوسط. اذا ما فعلت ذلك فإنك تكون قد انخرطت فعلا في سياسة حضارية وإنسانية. وسوف تخلّد اسمك في التاريخ.