حبس حشمه

TT

الشتاء يدفعك للالتصاق أكثر و(أكثر)، والخريف للتأمل، والربيع لإطلاق عواطفك الجياشة، وإن لم تجد أحداً تبثه ذلك، فلا بأس من جذع شجرة مكتنزة، والصيف للذوبان الحقيقي حيث من العار أن تبقي في نفسك قطرة واحدة ولم تسكبها تحت أقدام من يستحق ذلك.

ولا أنسى قبل عدة سنوات في مدينة الرياض، وفي عز أيام الصيف، حيث أن الإنسان من الممكن أن يعمل (باربكيو) على إسفلت الشارع بدلاً من النار والجمر، وذهبت إلى منزل صديق، ولأنني لم آخذ موعداً مسبقاً منه فلم أجده، وإنما وجدت الشغال الذي فتح لي الباب، وفي تلك الأيام لم يكن هناك ثمة (موبايلات)، فطلبت من الشغال أن يسمح لي بإجراء مكالمة تليفونية، فأدخلني للحوش حيث كان هناك مجلس للضيوف، وذهب هو في حال سبيله، وأجريت المكالمة مع شخص يهمني لقاؤه جداً، وتواعدنا على اللقاء حالاً ـ أي (مسافة السكة) ـ وفي هذه الأثناء كان هناك كلب حراسة ضخم للبيت من نوع (الجيرمن شبرد)، أحس ببرودة هواء المكيف الصحراوي وهي تتسلل عبر باب المجلس المفتوح، فربض أمام فتحة الباب، لم ألاحظه في البداية لأنني قمت إلى الحمام لأغسل وجهي، وأتأمل هندامي، وأدندن بمقطع من أغنية (اسبأني يا ألبي اسبأني)، وقبل أن أصل إلى الباب انقطعت دندنة (ألبي)، وكادت أن تنقطع معها أنفاسي وذلك عندما شاهدت ذلك الكلب الشرس وهو يرمقني بعينين ليس فيهما أي مودة، ثم يكشر عن أنيابه ويهر هريراً متواصلاً وكأنه يقول لي: إياك أن تخطو خطوة واحدة، المشكلة أن ذلك المجلس المشؤوم ليس فيه غير باب واحد، وأنا لا أستطيع أن أخرج ولا حتى أن اقفل الباب على نفسي، حيث أن تلك (الآفة) تسده بجسدها الضخم، حاولت أن ألاطف وأبتسم في وجه الكلب، غير أنني عندما فعلت ذلك زاد من تكشيرة أسنانه اعتقاداً منه أنني (أتريق) عليه، ماذا افعل يا ربي؟!، حاولت أن أصيح وأنادي على الشغال الذي لا أعرف اسمه والذي يبدو لي انه هو وحده في البيت، حيث أنني لم أسمع أي حركة، واضطررت أخيراً للسكوت عن الصياح، لأن صوتي قد أزعج الكلب، ومع كل صيحة مني كان غضبه يزداد عنفاً، وقبعت في ركن المجلس كأي (سنجاب) موكلاً أمري لله، وفي نفس الوقت شاحذاً فكري الخلاق عن ماذا افعل لكي أتخلص من هذه الورطة، وهداني تفكيري (العبقري أو البقري) إلى أن أتصل بشرطة النجدة، وفعلاً اتصلت بهم ورد علي جندي مناوب يبدو أن حرارة الظهيرة قد أخذت منه مأخذاً، وسألني عن الحكاية، فرويت له حالتي المزرية، وبدلاً من أن أكسب عطفه راح يهزئني معتقداً أنني (فاضي وأتسلى) ـ على حد تعبيره ـ، ثم أغلق السماعة في وجهي، وعندما عاودت الاتصال هددني بأسوأ العواقب إن كررت الاتصال، وأخيراً هداني ربي إلى أن اتصل بمن كنت على موعد معه، فأتاني صوته الرقيق يعتب عليّ لأنني أخلفت المواعيد، فلعنت أبو المواعيد وأصحابها، وقلت له: لا أريد أن أرى وجهك كل ما أريده هو الحرية ولا شيء غيرها، أرجوك ثم أرجوك اتصل على رقم هذا التلفون ـ وأعطيته رقم البيت ـ ودع الجرس يرن إلى أن يرد عليك الشغال ودعه يأتني، وفعلاً أخذ التلفون (يرقع)، وبعد فترة أتاني (السيد الشغال)، وهو يفرك عيونه، حيث انه كان نائماً نومة القيلولة، وأول ما شاهده الكلب قام من مكانه، نظرت إلى خد الشغال، وتحسست كفي، ثم استخرت بالله، وانطلقت إلى جو الحرية (أصفر) وأرمح، وكأنني ولدت من جديد، بعد اعتقال دام أكثر من ثلاث ساعات.

[email protected]