القرية وصقلية

TT

«خلف أبواب مغلقة: منزل والدها وقصص أخرى من صقلية». مجموعة قصص قصيرة (11 قصة، عدد قصائد محمود درويش) كتبتها الايطالية ماريا ميسينا اوائل القرن الماضي. كلما قرأت قصة منها خلتني أقرأ في حكايات الهجرة اللبنانية الى الأميركتين في الحقبة نفسها. رجال يهاجرون خلف اللقمة الى بلاد مجهولة لا يعرفون أهلها ولا لغتها، ويتركون وراءهم زوجة وطفلا، وأحيانا الكثير من الأطفال. تحملهم البحار والمحيطات الى القارات والغابات، ثم تتركهم لأنفسهم، فيما العائلة في القرى تنتظر أن يرسل الزوج بعض المال فور وصوله. أو أن يرسل في طلب عائلته. لكنه كان أحيانا، يذوب في عالمه الجديد، وينسى كل ما ومن خلفه، ويموت بعيدا مثل إعلان المفقود الذي ذهب ولم يعد.

مضيت أقارن بين أجواء القرى اللبنانية أوائل القرن وبين الحياة في صقلية، كما ترسمها هذه الأديبة الجريئة، التي حملت قلما وورقة في مرحلة كانت الكتابة فيها حكرا على الذكور المتفوقين، الخارقين، الذين يقررون كيف وكم ستعمل المرأة، وكم من العنف يمكن أن تتحمل، وأي إقطاعي سيتخذها عشيقة له.

لا. المرأة في القرية اللبنانية كانت شريكة في العائلة وفي موسم الحصاد وكانت تلف شعرها بمنديل حتى في الحقول. وعندما كان يهاجر الزوج، لم تكن تحافظ وحدها على حرمتها. القرية كلها كانت تحرس تلك الحرمة. نادرا ما ذهب الزوج ولم يعد. فهو كان يسافر من أجل عائلته لا من أجل نفسه. ولكن حتى عندما لا يعود، ينشأ أبناؤه في كنف أخوالهم وأعمامهم. وفي قريتي حالة واحدة، ذهبت مثلا. ليس لأن الزوج ذهب ولم يعد، بل لأن أبناءه نشأوا أطباء ومهندسين في رعاية أم وأخوال لا يملكون سوى القليل من الحقول وبغلة طيبة تنقل محاصيل الرزق. وعندما كانوا يسألون عن كدهم كانوا يرددون جوابا واحدا يرفعه أهل القرى العاملون: الله يبعث.

عالم صقلية كان مختلفا. هاجر الرجال الى أميركا وتركوا عائلاتهم وأنشأوا في المدن الأميركية «عائلات المافيا». غريب في الهجرة اللبنانية القديمة أنها كانت، تقريبا، خالية من الشر. وعندما أسمع الآن عما يحدث في أستراليا وبعض أميركا اللاتينية أشعر بالخجل. فقد كان المهاجرون القدامى «روادا» بكل معنى الكلمة. رفضوا الغنى السريع والخطأ السريع. وتحولت حياة أكثرهم الى أساطير في النجاح. وخلافا لكل الجاليات المهاجرة الأخرى (الإيطالية، الايرلندية، الخ) كانوا رمز العمل بالقانون، هم القادمون من دولة مستعمرة لا قانون فيها. وبعكس المهاجرين الآخرين لم يحملوا معهم الشعور بالمرارة من الفقر والمجاعة والاستعمار، بل نقلوا الى العالم الجديد أجواء الفرح والغناء والمواويل. ونقلوا أحيانا خلافات القرى الصغيرة: من بيته أكبر من بيت مَن، ومن ابنه اشطر من ابن مَن، ومَن سيعود الى القرية محملا بالهدايا، قبل مَن.