«الغدير».. العمل بالمؤتلف لا المختلف!

TT

من أجل العراق! لا بد من تجاوز مصطلحات ملبدة بالكراهية: الشعوبية طالما أوغر الصدور بالحقد. والصفوية والعجمة بما فيهما من تخوين. والرافضة بما ينطوي عليه من التكفير وإسقاط الآخر. والفرقة الناجية لاحتكار الإيمان. والنواصب بما فيه من تكريس للعداوة. ويا لثارات الحسين المبطن بدوافع الانتقام. وبالجملة بنيت تلك المصطلحات على إدامة الخصومة، وتمزيق الألفة.

تلك مقدمة، لما سنقوله في «عيد الغدير» (18 ذي الحجة)، وهو ذكرى خطبة الوداع (العاشرة من الهجرة)، على جرف غدير خُمَّ، بين مكة والمدينة. ومنها: «مَنْ كنت مولاه، فعلي مولاه» (تاريخ اليعقوبي). لا نريد الخوض في أصل الخطبة، ولا في ما اختلف المتكلمون حول الفاضل والمفضول في الإمامة، أو مَنْ أثبت الخطبة من المؤرخين، مثل اليعقوبي (292هـ) من دون الإشارة إلى دلالتها السياسية، أو مَنْ أتى على روايتها من دون العبارة أعلاه مثل الطبري (ت 310هـ)، بقدر ما ننوه إلى خطورة ما يعكسه الخلاف حولها على حاضر الدولة العراقية، وتجربتها الوليدة.

بداية كان أهل هذا الصقع، قبل التمايز الشيعي السُنَّي، أي قبل ما جرى بين المتكلمين من أبحاث وما استغله السياسيون من مقالات، علويين في غالبيتهم، ومازالوا يحبون علياً وآل بيته على درجة واحدة من الوجد، وسيجد المار بسامراء وحديثة وعانة العاطفة لدى أهل النجف وكربلاء نفسها، مع اختلاف وسائل التعبير.

ويسجل التاريخ ما حدث لأبي حنيفة (ت 150هـ) من مكاره بسبب تأييد البيت العلوي، من أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 49 هـ)، وما حصل للشافعي (ت 204هـ) لفرط حبه للعلويين، عندما أُتهم بتأييد أحدهم ضد العباسيين. وما حصل لابن حنبل (ت 241هـ) بتهمة إيواء علويين كانوا على خلاف في زمن جعفر المتوكل (قُتل 247هـ). ومعلوم أن أهل السُنَّة العراقيين هم على مذاهب هؤلاء الأئمة. وبعيداً، لو قرأت كتاب «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لمصنفه ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ) لتوقفت عند تعصبه لعلي، ولو لم نعرف أنه من فقهاء المالكية، لقلنا أنه من الإمامية!

ليس المراد من تبني المؤتلف لا المختلف في شأن دولة عصرية، ومد بساط الوئام الاجتماعي فيها، هو حجب الاحتفال بهذه المناسبة أو تلك، فكثرة الأفراح، على خلاف الأتراح، تعمر الأوطان. لكن، ألا تكون سبباً لإحضار عاصفة من الخلاف «طوى لها النَّسر كشحيه فلم يطرِ»! مثل عاصفة الإمامة. قال «إخوان الصفا» (القرن الرابع الهجري) فيها، وهم جماعة شيعية: «كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين العداوات والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدماء» (رسالة الديانات). ومن بعدهم بمائتي عام قال الشافعي ابن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ): «ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُل على الإمامة في كل زمان» (الملل والنحل).

وفي زمن التناحر بين الديلم والأتراك (السنة 389هـ) ببغداد، والطائفتان ليستا من أهل العراق وشأنهما شأن العثمانيين والصفويين، حدث أن «جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب، وتعليق الثياب، وإظهار الزينة في يوم الغدير... فأرادت الطائفة الأخرى من السُنَّة أن تعمل لنفسها، وفي محالها وأسواقها ما يكون بإزاء ذلك، فادعت أن اليوم الثامن (عشر) من يوم الغدير، كان اليوم الذي حصل فيه النبي (ص) وأبو بكر (رض) في الغار، وعملت مثلما تعمله الشيعة في يوم الغدير» (ذيل تجارب الأمم).

لتتعدد الأعياد وتزداد، لكن بحدود الموازنة وحياد الدولة، فخلاف الإمامة التي يحتفى بعيدها عجز المتقدمون عن حله، وفنى المتأخرون فيه. واليوم أُعلن الغدير كعطلة في عدة محافظات، رغبة من محافظ أو توصية حزبية. وما حصل بالناصرية، رفض أعضاء مجلس المحافظة، وهم من طائفة واحدة، تعطيل الدوام في تلك المناسبة، غير أن رئيس المجلس أعلنه بغفلة منهم. ويبدو ما بين العقليتين مسافة من الزمن: أولئك قدموا المؤتلف وذاك قدم المختلف!

أقول: ماذا لو استعادت الطائفة الأخرى، في المناطق الخالصة والمختلطة بما فيها بغداد، ما حدث سنة (389هـ)، وأعلنت يوم الغار عيداً مثلما سنه أتراك الزمن الماضي! مواجهةً للغدير، مثلما سنه عيداً صفويو الزمن الماضي أيضاً! والسؤال: مَنْ مِنْ ساسة الطائفتين كان وفياً بفعلته لصاحبي الغار أو صاحب الغدير؟ لا شك، أن ممازجة الديني والمذهبي بالسياسي، وبالطريقة الهابطة التي تحصل في المحافظات، ستكون عواقبها وخيمة على العراق! فأعيان المجالس قد يجيدون العبادات والزيارات، لكنهم لا يجيدون إدارة شؤون الدولة! وتجاوز المختلف إلى المؤتلف لقتل الفتنة!