موازنة المصالح والقيم في السياسة الأميركية الخارجية

TT

تميز الخطاب الذي القاه وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في مناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأربعمائة لتأسيس أول مستوطنة إنجليزية في أمريكا، بالوضوح والصراحة.

طرح الوزير غيتس خطابه من منظور واقعي يهدف إلى شرح وجهة النظر الأمريكية المعنية بتعزيز الديمقراطية في الخارج.

هناك بعض النقاط الجديرة بالذكر في الخطاب، ومنها أن الوزير سلم بحقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال تواجه صعوبة في إيجاد حجم الدور المناسب لها في دفع الحرية والديمقراطية في العالم، وتحديدا كيف يمكنها أن تدمج قيمها الديمقراطية في تعاملها مع الدول الأخرى؟ هل يتوجب على الولايات المتحدة محاولة تغيير طرق الحكم في البلاد الأخرى، التي لا تمثل الإرادة الحقيقية لشعوبها؟

علق الوزير على حقيقة التوجه الانعزالي الأمريكي ـ تاريخيا ـ حين جُبِل بعض المسؤولين الأمريكيين على اتباع سياسة تجنب التحالفات الدائمة أو الانخراط في صراعات خارجية معقدة. بينما يعتقد مسؤولون آخرون بأن الولايات المتحدة لديها التزام أخلاقي يحتم عليها دعم الدول الديمقراطية الفتية في جميع أنحاء العالم، ومن هؤلاء الوزير غيتس نفسه. وصف غيتس هذين التوجهين المتنافسين بأنهما يمثلان الفرق بين مدرسة السياسة الواقعية Realism ومدرسة السياسة المثاليةIdealism أو الفرق بين المنهج المرتكز على المصالح وذاك الذي يرتكز على القيم في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. ويرى غيتس أن رؤساء أمريكا الأكثر نجاحا هم الذين تمكنوا من الجمع بين المنهجين اعتمادا على الظروف والأولويات المتغيرة.

وأقر وزير الدفاع الأمريكي بأن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء في ماضيها، وأنها في بعض الأحيان كانت متعجرفة في تعاملها مع الآخرين. ملاحظات الوزير الصريحة بدت وكأنها رد على منتقدي الولايات المتحدة الذين يتهمونها بممارسة سياسة خارجية متضاربة.

وعلى الرغم من أن غيتس أوضح أن هدف السياسة الخارجية الأمريكية الأول هو حماية أمن ومصالح الولايات المتحدة، إلاّ أنه أكد إمكانية تحقيق ذلك الهدف مع دعم المؤسسات والقيم الديمقراطية في نفس الوقت.

وعلى نفس القدر من الأهمية فقد طلب الوزير غيتس من جمهوره الصبر حتى تُكمل الأنظمة الديمقراطية الجديدة في العراق وأفغانستان عملية الانتقال والتحول من الحكم الاستبدادي إلى مجتمعات حرة، مذكرا إياهم بأن الولايات المتحدة نفسها قادت تجربة طويلة وصعبة قبل أن تصبح ديمقراطية فاعلة ومستقرة. وشدد على أنه لا بد من إتاحة الوقت الكافي للعراق وأفغانستان لكى يعثرا على النموذج الديمقراطي المناسب لمجتمعيهما وثقافتيهما الفريدتين. كما طلب من الدول الديمقراطية في المجتمع الدولي الصمود في دعمها للدول الديمقراطية الجديدة، بالإضافة إلى معارضة اولئك الذين يريدون العودة إلى سياسة الخوف والاضطهاد.

وبطريقة أو بأخرى، فقد أكمل الوزير غيتس خطابه من حيث توقفت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في كلمتها المهمة التي ألقتها في الجامعة الأمريكية في القاهرة صيف 2005، حين قالت ان «الولايات المتحدة سعت إلى استقرار المنطقة ـ الشرق الاوسط ـ على حساب الديمقراطية ولم تحصل على أي منهما (أي لا على الديمقراطية ولا على الاستقرار)»، مضيفة أنه «من الآن فصاعدا، سوف تساند الولايات المتحدة الطموحات الديمقراطية لكل الشعوب».

كرر وزير الدفاع الأمريكي التزام الولايات المتحدة بالحرية والديمقراطية، ولكن في الوقت نفسه أشار إلى أن صياغة السياسة المناسبة ليست بالسهولة التي تبدو عليها، إذا أخذنا في عين الاعتبار تغيّر الأولويات الأمريكية. ربما أهم ما قاله الوزير هو أن الأمر في نهاية المطاف يعود إلى أنصار الديمقراطية داخل كل دولة للتحول من الحكم الاستبدادي إلى مجتمع أكثر حرية.

كل ديمقراطية فتية لا بد لها أن تقرر لنفسها المسار الذي تأخذه لتحقيق ذلك الهدف، وتبقى الولايات المتحدة راغبة في المساعدة، ولكن لا يُمكنها أن تنجز ذلك نيابة عن أي مجتمع.

* عضو فريق التواصل بوزارة الخارجية الأميركية

يكتب لـ«الشرق الاوسط»