التفاؤل مطلوب.. لكن الحذر واجب!

TT

تفاءلوا بالخير تجدوه لكن هناك مثل بقي اللبنانيون يرددونه منذ انفجار هذه الأزمة، وهذا المثل يقول: «إن الشياطين في التفاصيل»، فاتفاق وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير تم في جلسة واحدة هي جلسة منزل أمين عام الجامعة العربية، التي يبدو أن أجنحة الملائكة، كانت ترفرف فوق رؤوس وقلوب الذين حضروها، والذين ما أن تآلفت قلوبهم حتى خرجوا إلى وسائل الإعلام على جناح السرعة، ليعلنوا وداعاً لمسيرة المشاكل والإشكالات في لبنان!!

ولعل ما يشير إلى أن ما تم قد رفع معنويات الأمين العام عمرو موسى، الذي كان ينتظر مثل هذا الدور للجامعة العربية، أنه بادر إلى استباق الأحداث والإعلان عن أنه تم الاتفاق على العمل من أجل تحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس من خلال آلية عربية على غرار خطة التحرك لحل الأزمة اللبنانية. وبالتأكيد، فإن الأمين العام يعرف بعد هذه التصريحات الآنفة الذكر وقبلها أن تعقيدات الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني لا تقل صعوبة عن تعقيدات الخلاف اللبناني ـ اللبناني، فبالنسبة للفلسطينيين كان انقلاب يونيو الماضي عملية انفصالية جغرافية وسياسية وسلطوية فهناك الآن دولة في غزة تمنع أي نشاط لحركة «فتح» ودولة في رام الله تتعامل مع أعضاء «حماس» في الضفة الغربية على أنهم خلايا سرية نائمة جاهزة لتفعل ما فعلته الحركة الأم في «القطاع». لا شك في أن هناك جهوداً خيرة تقوم بها المملكة العربية السعودية على هذا الصعيد، لكن ما يجب أن يدركه الأمين العام والمتفائلون أكثر من اللزوم، أن هذه الجهود بحاجة إلى المزيد من الوقت كي تحقق الغاية المنشودة إذْ من الواضح أن المسافة بين حركة «فتح» وحركة «حماس» باتت بمقدار بعد السماء عن الأرض، وأنه لا بد من تذليل عقبات كثيرة قبل أن تصبح هناك إمكانية فعلية للالتقاء في منتصف الطريق، وقبل أن يتم الحكم على هذا الخلاف بأنه غدا صفحة مطوية. عندما تم التوصل إلى اتفاق مكة المكرمة كانت الأمور بين «حماس» و«فتح» لم تكن قد وصلت إلى ما وصلت إليه ولم يكن هناك لا دولة غزة ولا دولة الضفة الغـربية، ولا حكومة إسماعيل هنية وحكومة سلام فياض، وكان مؤتمر أنابوليس لم ينعقد بعد وكانت عملية السلام متوقفة عند النقطة التي وصلت إليها قبل سبعة أعوام، ولذلك فإن مهمة المصالحة والتصالح كانت أسهل كثيراً مما هي عليه الآن. لأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) يعرف أنه ليس أمامه أي خيار إلا خيار الاستمرار بالمفاوضات التي أطلقها مؤتمر أنابوليس، حتى عندما كان لا يزال يسمى مؤتمر الخريف المقبل، فإن شرطه الرئيسي للحوار مع «حماس» والتصالح معها لم يكن التراجع عن انقلاب منتصف يونيو فقط بل موافقة حركة المقاومة الإسلامية على برنامج منظمة التحرير والتزامها بكل ما التزمت به هذه المنظمة من اتفاقيات وتفاهمات، وعلى رأسها اتفاقيات أوسلو التي هي أساس مسيرة العملية السلمية منذ عام 1993 وحتى الآن. إن الرئيس الفلسطيني ومعه رئيس وزرائه سلام فياض ومعهما حركة «فتح»، التي تشير كل التقديرات إلى أنها واجهت تحدي «حماس» لها بصحوة تنظيمية وسياسية دفعتها لإعادة بناء نفسها، يعرفون أن التصالح مع «حماس» بدون التزامها ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي هو برنامج مفاوضات سلام وليس برنامج مقاومة، يعني توقف العملية السلمية من ألفها إلى يائها، ويعني إدارة الظهر لمؤتمر أنابوليس وما ترتب عليه، ويعني إعفاء الرئيس الأميركي جورج بوش من الوعد الذي قطعه على نفسه أكثر من مرة، آخرها عشية زيارته الأخيرة إلى هذه المنطقة، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل قبل نهاية العام الحالي، الذي هو آخر عام له في البيت الأبيض.

إن المسألة ليست مسألة تفاؤل وتشاؤم ولا مسألة ابتعاد عن حركة «حماس» واقتراب من «فتح» والسلطة الوطنية ومحمود عباس ومنظمة التحرير، إنها مسألة حقائق قائمة يجب التعامل معها كما هي، ما دام أنها قائمة، فالواضح أن هناك برنامجين ليسا متعارضين فقط، وإنما متصادمان وأن كل صاحب برنامج متمسك ببرنامجه ويرفض المساومة عليه والالتقاء مع الطرف الآخر في منتصف الطريق، وهذا ما حاول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التوصل إليه مع «حماس» تحت شعار: «تبادل الأدوار»، لكنه فشل فشلاً ذريعاً فانتهى بالطريقة المأساوية المعروفة. لا خالد مشعل، الذي أعلن قبل أيام أنه لا خيار عنده غير خيار المقاومة والعمل المسلح، ووجه اتهامات قاسية إلى سلام فياض وطالب باستقالته، لديه أي استعداد للالتحاق هو وحركته ببرنامج منظمة التحرير و«فتح» والسلطة الوطنية ولا محمود عباس (أبو مازن) لديه استعداد للعودة للمراهنة على الأوهام وإدارة الظهر لعملية السلام المتواصلة الآن والتي كان مؤتمر أنابوليس بمثابة انطلاقة جديدة لها والالتحاق بـ«حماس» وبرامجها وتحالفاتها التي تصر على عدم التنازل عنها وعدم الاستعداد لما هو أكثر من هدنة يتم الاتفاق بشأنها إن لثلاثين عاماً أو أكثر أو أقل.

إن هذا هو الواقع الفلسطيني القائم الآن، ولعل ما هو معروف أن البند الرئيسي بالنسبة لاتفاقية مكة المكرمة التي جرى اغتيالها قبل أن ترى النور، هو البند الذي نصَّ على ترك المفاوضات والعملية السلمية لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.. فهل يقبل خالد مشعل وتقبل «حماس» بعد السيطرة على غزة وإقامة دولة فيها، حتى وإن كانت هذه الدولة محاصرة وهزيلة، بالعودة إلى الالتزام بهذا البند وتترك (أبو مازن) يفعل ما يرى أنه يقرب هدف إقامة الدولة المستقلة التي غدت مطلباً فلسطينيا وعربياً وأيضاً مطلباً دولياً عاماً.. ؟!

لا يمكن أن يقبل مشعل بهذا، فهدفه أبعد من الالتحاق بمنظمة التحرير، وأبعد من مجرد شراكة محدودة مع محمود عباس.. ثم وإذا افترضنا جدلاً أنه سيقبل فهل تقبل إسرائيل بأن يكون هو وحركته شريكاً لها في مفاوضات، يبدو أنها جدية هذه المرة، هو وحركته يرفضان الاعتراف بها كدولة لها حق العيش والاستمرار في هذه المنطقة..؟!

في كل الأحوال وبالعودة إلى الأزمة اللبنانية التي جعلها تفاؤل الأمين العام عمرو موسى بحكم المنتهية، في ضوء قرارات مجلس الجامعة العربية الأخير، فإنه لا بد من التعاطي مع هذه المستجدات على أساس أن هذه الأزمة هي في حقيقة الأمر أزمة إقليمية ودولية، وأن حلها الحل الذي لا يشكل مجرد «استراحة محارب» أو هدنة مؤقتة يقتضي الغوص في كل التفاصيل الشيطانية من محاولات الالتفاف على إنجازات مؤتمر الطائف الشهير وإعادة صياغة التركيبة اللبنانية، المذهبية والطائفية إلى مسألة سلاح حـزب الله إلى المحكمة ذات الطابع الدولي إلى ترسيم الحـدود اللبنانية ـ السورية إلى القانون الذي من المفترض أن تجري وفقاً له الانتخابات النيابية الجديدة.

إنه إنجاز لا يمكن التقليل من شأنه، فانتخاب الجنرال ميشال سليمان، رئيساً للجمهورية بعد غدٍ السبت أو بعد ذلك استحقاق في غاية الأهمية، إذْ هو يخلص لبنان من هذا الفراغ الدستوري الخطير الذي يعيشه الآن.. لكن يجب أن يكون معروفاً أن العمل السياسي في لبنان هو كما يوصف رمال متحركة، وأنه قد يطرأ في أية لحظة ما قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، هذا على اعتبار أن هناك إمكانية لحل مشكلة إعادة صياغة التركيبة، وحل مشكلة سلاح حزب الله، ومشكلة التدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، ومشكلة المحكمة ذات الطابع الدولي.