«دون جوان» الإليزيه

TT

يخوض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، هذه الأيام، تجربة لم يسبقه إليها رئيس جمهورية نعرفه، في العصر الحديث. فقد قرر أن يكون «جديداً»، و«يقطع مع القديم»، كما قال، وهذا قد يكون ثمنه باهظاً جداً. ويخلط الرئيس الفرنسي الذي يعيش قصة حب مع مغنية وعارضة أزياء سابقة، بين أن يكون «شفافاً» و«صادقاً»، وأن يكون استعراضياً وساعياً للنجومية على الطريقة الهوليوودية، تنشر صور حبِّه على الصفحات الأولى للمجلات الشعبية.

فلم يسبق لرئيس فرنسي أن كان مطلّقاً، فضلاً عن أن يطلق زوجته خلال فترته الرئاسية. فما بالك حين يقع في غرام سيدة أخرى بعد شهرين فقط، وها هو يقرر الزواج منها بسرعة، يحسده عليها المراهقون المتهورون. وهذا كله يبقى، ربما غير مثير للجدل، لو أن الحبيبة لم تكن «دون جوانية» المزاج، معروفة بعلاقاتها بمشاهير، ورغبتها في تبديل الأصدقاء، وأحياناً الجمع بينهم. وكي يبلغ التشويق غاياته والجذب أعلى مستوياته، يقرر الرئيس أن يقوم برحلة سياحية مع حسنائه بين الأقصر والبتراء، مع كل ما يمكن أن تضفيه الصحراء العربية من تخييل على هذه الأسطورة العشقية.

موضوع حميم، لا يعني إلا صاحبه، لكن ساركوزي خاطف الأضواء، الذي لعب على حبال الإعلام منذ إطلاق حملته الرئاسية لم تكن تنقصه إلا كارلا بروني، صديقة الكاميرات والبروجكتورات، وملكة «البوزات» كي ينقل جزءاً من حياته الشخصية إلى الصحف والشاشات. وهذا خيار شخصي. فوراء كل رجل عظيم امرأة، وربما أن وراء كل رئيس نجما، «توب موديل»، تعرف كيف تغري العدسة بالتقاط صورة لهما معاً، توزع عبر القارات.

لعبة خطيرة، لكنها مثيرة للتأمل. واعتبار ساركوزي أن ما يفعله «قطيعة مع تقليد مؤسف من النفاق»، في إشارة إلى علاقة فرانسوا ميتران السرية مع امرأة غير زوجته، أنجب منها ابنته غير الشرعية مازارين، هو أمر لا يخفف من وطأة المغامرة الساركوزية، ولا يلغي فرادتها. فكذب أحد الرؤساء لا يبرر لآخر عرض حميمياته على الملأ. وإن كان ثمة رؤساء يقومون بمغامرات عاطفية، وهذا معروف، فإن احداً منهم، ربما، لم يجمع لحكايته كل عناصر التشويق التي استطاعها ساركوزي، ثم قدمها هدية للفضوليين.

من المبكر الربط بين هبوط شعبية ساركوزي إلى أقل من 50%، وصوره الغرامية، لكن ما هو واضح بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم اول من أمس إثر رجوعه إلى فرنسا، مركزاً على السياسة الداخلية، ان الرجل يعاني صعوبات لا يُستهانُ بها. فالفرنسيون ينتظرون فرجاً اقتصاديا وأرقاماً واضحة لإنجازات تحققت، وهو يحدثهم عن نظرية إدغار موران الفلسفية في ضرورة انتهاج «سياسة حضارية». ويقدم مجموعة اقتراحات لمشاريع مستقبلية، وكأنه انتخب اليوم وليس قبل ثمانية اشهر. وجميل أن يستفيد السياسيُّ من الفيلسوف، لكن العارفين بساركوزي يقولون انه ليس صديقاً للكتب، والقراءة ليست شغفه، فضلاً عن أن الفيلسوف موران نفسه يتساءل إن كان الرئيس يعرف كتبه.

وبينما يشعر الفرنسيون بخيبة من تدني قدرتهم الشرائية، ومستوى النمو، يتبدى ساركوزي أكثر لمعاناً على المستوى الخارجي. فأميركا توارت قليلاً عن الشرق الأوسط بسبب تدهور علاقاتها مع بعض الدول، وجعلت من فرنسا، وسيطاً، يقوم مقامها جزئياً، ولعبت ديناميكية ومثابرة وزير الخارجية برنار كوشنير، دوراً مهماً، حتى قيل ان زوجته لم تعد تراه، بسبب زياراته المتكررة إلى لبنان وسوريا. وفرق بين مسؤول، لا يرى زوجته، وآخر لا يخرج من البيت من دون حبيبته. والمفارقات العديدة بين الرجلين دعت، أحد نواب الحزب الاشتراكي، لنشر مقالة موجهة إلى برنار كوشنير عنوانها «رسالة إلى صديقي الضائع في ديزني لاند» يطلب منه الانسحاب من حكومة متأمركة في ما هو معروف بنزعاته الإنسانية.

لكن المسألة أعقد مما يصفها النائب الاشتراكي الغيور. فساركوزي الذي قيل كثيراً عن أمركته، هو الذي يحمل اليوم يافطة أنسنة السياسة، والعودة إلى الحقوق والقيم. وصديق إسرائيل، كما قيل عنه عند انتخابه، هو الذي دعا القذافي، رغم انف المعترضين، وأعاد الحوار مع سوريا بعد قطيعة طويلة فرضها شيراك. وساركوزي الذي ينظر اليه على انه يميني ليبرالي جامح، انفتح على اليسار، وأشرك في حكومته وزراء من غير طينته السياسية.

والرجل الذي مسح دمعة انحدرت على خد زوجته سيسيليا، يوم دخوله إلى قصر الإليزيه، بحنان تحسدها عليه نصف نساء العالم، هو الذي لم يحتج لأكثر من ستين يوماً كي يدفن علاقته بها ويهيم بكارلا. بهذا المعني، يبدو ساركوزي، رجل التحولات والمفاجآت غير المتوقعة، ليس لأنه لا يعرف ما يريد، وإنما، على الأرجح، بسبب براغماتية في طبعه يحسد عليها. أما الثابت الذي قد لا يتخلى عنه هذا الرئيس فهو شغفه الشديد بصورته. شغف أسال حبراً كثيراً وما يزال. ويقول فيليب جيبير، المتخصص في الظهور الإعلامي وله اكثر من كتاب حول الموضوع، ان ساركوزي ظاهرة، وهو يعمل دائماً على فرض المواضيع التي يشغل بها الصحف بدل ان يحدث العكس. وبحسب هذا الخبير، فإن ساركوزي حين ترشح للرئاسة تصرف وكأنه مدير محطة تلفزيونية كبيرة عليه ان يضبط ايقاعها، فيما اكتفت سيغولين رويال بأن تتصرف كممثلة في مسلسل يومي، ولم تتمكن من ضبط باقي المشهد، وهذا أحدث فرقاً في النتائج.

لكن الخبير المحنك، لا يرى ان الرئيس الفرنسي، سيفقد ألقه قريباً، أو أن وهجه سيخف بسرعة، لأنه ما يزال قادراً على الانفراد بصناعة الخطاب العام، والتأثير على الأفكار. وبالتالي، فإن الفرنسيين لن يتحرروا بسهولة من صور رئيسهم التي تخرج عليهم من كل مكان. وسيبقى الرجل قادرا على خوض مغامراته، العشقية وغير العشقية، إلى ان يتمكن الواقع من الثأر لنفسه، وهذا يحتاج إلى جهود جماعية لدرء السطوة الساركوزية.

[email protected]