بين «جيب» الجنرال و«سلة» الحزب

TT

الحمد لله أن جامعة الدول العربية ـ وليس أي طرف أو «وسيلة» غيرها ـ كانت الجهة التي أخرجت الأزمة اللبنانية من «جيب» الجنرال (دون التفاوض معه) و«سلة» حزب الله (بدون المساومة معه) لتعيدها الى موقعها الطبيعي، إقليميا: القرار العربي، ولبنانيا: المؤسسات الدستورية.

إنجازان فوريان حققتهما مبادرة الجامعة العربية: وضع حد لمسيرة انزلاق لبنان نحو فتنة داخلية وتقديم أولوية انتخاب رئيسه على أي خيار آخر.

هل سيحسن اللبنانيون التعامل مع المبادرة وجعلها المنطلق المواتي لاستقلال القرار اللبناني ـ بعد طول ارتهان للخارج ـ أم أن النزاعات الحزبية الضيقة التي بدأت تتمحور حول «تفسير» المبادرة ستعيدها الى «الجيوب» و«السلال»؟ يصعب على مبادرة تحمل كل هذا الثقل العربي ـ وتحظى بتأييد سوري ـ أن تواجه «معارضة» جدية في لبنان. وفي تخصيصها الرئيس اللبناني المقبل، ميشال سليمان، بورقة «الصوت الوازن» في حكومة العهد الاولى، تعطي العهد المقبل فرصة تاريخية تتجاوز مجرد التوفيق بين المعارضة والموالاة إلى توفير فرصة قد لا تتكرر لإدخال نقلة نوعية على نظام «الحكم الذاتي» تجعله أقرب الى «نظام استقلالي». وتحقيق هذه النقلة لن يكون مستبعدا في حال اتجهت الأوضاع الإقليمية الى المزيد من الانفراج خصوصا على صعيد التسوية الفلسطينية ـ الاسرائيلية وما ستستتبعه من قيام الدولة الفلسطينية ومن عودة ملف الجولان المحتل إلى الواجهة كآخر عقبة جدية في وجه السلام الشامل في الشرق الاوسط.

غير خاف أن ما سمي «استقلالا» عام 1943 لم يوفّر للبنانيين ـ على هشاشته ـ أكثر من فترات «تثاؤب» مارسوا خلالها، وما زالوا، شكلا من أشكال «الحكم الذاتي» بمقدار ما كانت تسمح به موازين القوى الخارجية.

والواقع أن أي عودة إلى التاريخ القريب تظهر أن انتقال جبل لبنان من أحضان الاستعمار العثماني الى مظلة الانتداب الفرنسي عام 1918، ومن ثم إلى «رعاية» الوصاية السورية في السبعينات، لم يكن يوما حصيلة الإرادة الشعبية الواحدة لأبناء جبل لبنان، ولا لأبناء الاقضية الاربعة التي ضمت إليه عام 1920، بقدر ما كان حصيلة صفقات خارجية استظلت موازين القوى الدولية واستغلت الخلافات الداخلية لترسم خريطة الشرق الأوسط من منظور مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، أولا، وتسوقها لاحقا كإنجاز عربي استقلالي.

لا غرابة أن يكرر التاريخ نفسه عام 2008 فيعود حكم لبنان الذاتي (ولا نقول استقلاله) رهين تسويات خارجية.. ولكن مع فارق أساسي هذه المرة هو، على حد تعبير رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، «احتضان» العمق العربي له.

مع ذلك يصعب فصل قرار وزراء الخارجية العرب بشأن لبنان عن معادلة موازين القوى الدولية والإقليمية القائمة حاليا بين الدول الداعمة لدعاة إعطاء الاولوية لموضوع الفراغ الرئاسي وتلك المطالبة بشروط سياسية مسبقة لملئه تتجاهل اللعبة الديمقراطية في لبنان وآليتها في آن واحد.

وبصرف النظر عما قيل عن أن المبادرة العربية تجسد ذلك الشعار اللبناني الوهمي ـ شعار «لا غالب ولا مغلوب» ـ تعكس المبادرة معطيين قائمين، أحدهما داخلي أبرزته قدرة المعارضة اللبنانية على عرقلة الاستحقاق الرئاسي فقط وعجزها عن فرض مرشحها للرئاسة، وثانيهما خارجي عكسته أرجحية نفوذ الجهات العربية والدولية المؤيدة لتسوية في إطار دستور الطائف على نفوذ الجهات الداعية لتجاوزه بذرائع شتى، الأمر الذي أتاح لها خلق مناخ عربي موات للحل وإن لم تكن دمشق، ولا طهران ولا باريس ولا واشنطن، بمنأى عنه.

يبقى أن يلتقط اللبنانيون هذه الفرصة ليعملوا معا على تخطي أزمتهم السياسية من دون إرباكها بتفسيرات دستورية تحاول تجاوز دستور الطائف الذي تكمن علته في التطبيق الاستنسابي لبنوده إبان عهد «الوصاية» السورية وليس في نصوصه. وفي هذا السياق قد تكون المهمة الأبرز للعهد الجديد ـ بعد اعتماد قانون مناسب للانتخابات التشريعية ـ نفض الغبار عن ذلك النص المنسي في اتفاق الطائف والداعي الى إنشاء مجلس شيوخ يتساوى فيه اللبنانيون في تمثيلهم الطائفي، وبالتالي حقوقهم السياسية، مقدمة لإلغاء الطائفية السياسية من دستور البلاد.