تأملات مبدئية حول زيارة بوش

TT

حضرت لقاء نظمه المنتدى الاقتصادي المصري لوفد زائر من الكونغرس الأمريكي مع عدد من أصحاب الرأي المصريين ضموا رجال أعمال وأعضاء برلمان وممثلين لبعض الأحزاب. وقد ألقى البعض ـ على هامش مناقشات جانبية ـ بعض الكلمات القصيرة عن العلاقات المصرية الأمريكية تضمنت عادة تأكيداً لأهمية تلك العلاقات للطرفين وضرورة أن تكون متوازنة ومتسمة بالندية دون محاولة الولايات المتحدة الضغط أو الإملاء أو فرض رؤيتها للعالم لأن ذلك يؤدي الى الإساءة الى تلك العلاقات. وقد تحدثت أنا أيضاً بهذا المعنى وذكرت أنني كما أسمح لنفسي أن أنتقد الولايات المتحدة فلا أمانع في أن ينتقدونا دون أن يحاولوا الفرض أو الإملاء، وبدا أن الضيوف الأمريكيين يتفهمون ذلك حيث أشاروا الى الخلافات التي تحدث فيما بينهم حتى ليبدوا أنهم «أعداء» مع أنهم في الحقيقة يمارسون الديموقراطية التي اعتادوا عليها وعلى حرية الرأي. ووقف أحد ممثلي حزب معارض مصري لإلقاء كلمة انتقد فيها أموراً مصرية، ولم ير الأمريكيون فيما يبدو فيما قال ما يغضبهم، وانتقل بعد ذلك الى حديث انتقد فيه بحدة السياسة الأمريكية، والرئيس بوش شخصياً الذي وصفه بأنه ديكتاتور، ثم قال انه غير مرحب به شخصياً في مصر. وهنا ظهرت بعض معالم «الديموقراطية الأمريكية وترحيبها بالحوار وبالرأي الآخر» فإذا بعض أعضاء الوفد ينسحبون، ومعهم ممثل السفارة الأمريكية. وقد أفهم أن ينسحب الممثل الرسمي للولايات المتحدة، ولكني لم أفهم أن ينسحب من كان يتحدث عن حرية التعبير والديموقراطية، والحقيقة فإن من لم ينسحبوا كانوا هم الكثرة، ولكن الأمر كله ألقى ظلاً على اللقاء واضطر أحد الحاضرين المصريين الى تقديم توضيح. ولعل ما حدث يلقي ظلالاً حول حقيقة إيمان البعض بالديموقراطية وحرية الرأي التي يتشدقون بها، والتي يقولون إنهم يضربون بها المثل للدول الأخرى. ولكن لعله أيضاً يصلح خللاً للحديث عن زيارة الرئيس بوش القادمة لمصر والمنطقة، التي ذكر صديقنا المعارض أنه لا يرحب بها ولديه بعض الحق في التشكك فيها، ولكن رأيي أنها حدث هام يستحق أن تقلق عليه، كما يستحق أن نحاول الاستفادة منه ربما في محاولة إطلاعه بشكل أعمق، مما هو متاح له بحقائق الأوضاع في المنطقة وكذلك الصلة بين سياسات يدعو إليها أو يطبقها وبين النظرة السلبية للولايات المتحدة التي تؤكدها استطلاعات رأي أجرتها مؤسسات دولية معروفة بدقتها ليس فقط في بلادنا بل في دول حليفة لواشنطن في أوروبا وآسيا وغيرهما.

وأنا أكتب هذا المقال قبل ان تبدأ الزيارة ولكنه لن ينشر إلا بعد إتمام جزء منها، وهدفي أن أحاول الرد على تساؤلات أثيرت ـ ووجهت في برنامج تلفزيوني ـ عن هدف الزيارة واحتمالات نجاحها على ضوء ما قد يريده صاحبها منها.

أما عن هدف الزيارة المعلن، وهو في تحديد شكل الدولة الفلسطينية، فهو كلام غير مقنع، لأن المفاوضات التي جرت بين أبو مازن وأولمرت في لقاءات تعددت أوضحت تماماً عدم استعداد اسرائيل لكي تلتزم بما شاع أنها قبلت الالتزام به حول المستعمرات وحول الحد الزمني للاتفاق، وقد جاءت الأفعال والأقوال لتؤكد ذلك، فلم يكد أولمرت يغادر أنابوليس حتى نفى التزامه بأي شيء، كما رفض تفكيك المستعمرات التي يعترف الإسرائيليون والأمريكيون بأنها غير شرعية (مع أننا نرى كل المستعمرات غير شرعية)، بل انه أعلن عن مشروعات لتوسيع المستعمرات القائمة على أراض من المفترض ان يتم الانسحاب منها.

وبالتالي فإذا كان الرئيس بوش يريد ان يدفع بما يسمى عملية السلام الى الأمام فيجب أن يبدي استعداداً حقيقياً للضغط على إسرائيل التي رفضت وتحدت لومه الرقيق لها في تصريحات ضعيفة. وفي الحقيقة فليس هناك ما يشير الى هذا الاستعداد سواء بسبب قناعات بوش الشخصية أو بسبب الأوضاع السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، ومن اللافت للنظر ان اسرائيل استبقت زيارة الرئيس الأمريكي بهجمة جديدة على الأراضي الفلسطينية، وهو الأمر الذي يمكن ان يعتبر تحديا له من المفترض أن يغضبه، ولكني لا أعتقد انه إذا غضب، وهو أمر غير مؤكد، فإن ذلك الغضب سيكون خفيفاً رقيقاً كالعادة وسوف يبتلع الأمريكيون ما كان المنطقي أن يعتبر إهانة تستحق على الأقل موقفاً بادي الحزم، اتفاقاً مع ما بشروا به من ان مؤتمر أنابوليس سيكون بداية التسوية الحقيقية التي تنهي النزاع. وإذا تساءلنا عن سبب هذا الموقف الأمريكي الذي تصور البعض أنه سيكون ـ رغم السوابق والثوابت الأمريكية ـ أكثر انصافاً أو تمشياً مع المنطق والحق، فلعلنا نصل الى نتيجة أن الفلسطينيين هم الذين ساهموا في ذلك بانقسامهم الذي ما زال يدمي قلوبنا دون ان نرى استجابة لجهود بعضنا لوضع حد له.

وإذا كان في يد العرب بالفعل أوراق كثيرة ـ غير الأوراق الغريبة التي تحدث عنها البعض في محاولة لتصور سيناريوهات غير منطقية ولا معقولة، فإن في مقدمة تلك الأوراق وحدة الصف الفلسطيني. وفي غيابها فإننا نرى كيف يتعامل الإسرائيليون مع أوهام التسوية التي يؤكد كل لقاء بين ممثلي السلطة وإسرائيل ان أولمرت وزمرته يعملون على إفشالها وعلى زيادة الوقيعة بين الأطراف الفلسطينية، بل بين كل طرف وتلك الأطراف والدول العربية. وأعتقد أن ما يحدث على الحدود المصرية الفلسطينية وما أحاط بموضوع الأنفاق وموضوع الحجاج هو في جزء منه استغلال لأوضاع صعبة في محاولة للوقيعة بين مصر وجزء من الشعب الفلسطيني، تضاف الى محاولات الإساءة الى مصر لدى الولايات المتحدة.

وإذا كان التصور أن زيارة الرئيس بوش للمنطقة لا تستهدف تحقيق تقدم حقيقي بالنسبة للتسوية العربية الإسرائيلية على أسس سلمية لأن واشنطن لم تعط لنفسها الأدوات لتحقيق ذلك، فيبقى السؤال إذن لماذا الزيارة. هل هي رحلة دعائية لرئيس أمريكي قارب عهده الغروب ولصقت به السمعة التي اكتسبها لسياساته الخرقاء في العراق وغيرها، فيحاول الظهور ـ كما فعل غيره من قبل ـ بمظهر المحاول على الأقل بالسعي الجاد من أجل السلام؟

ومن ناحية أخرى فما يلفت النظر ما أحاطت به واشنطن من تضخيم حدثاً بحرياً في خليج هرمز بين البحرية الأمريكية وبعض الزوارق الإيرانية اتفق كثير من المعلقين على انه عادي، ولكن السلطات الأمريكية حاولت تصويره على انه خطير. فهل أرادت واشنطن أن تبرز الى مقدمة الصورة ما تريد إقناع دول المنطقة بأنه خطر إيراني مستمر بعد تقرير أجهزة المخابرات الأمريكية التي استبعدت الخطر النووي الى حد ما بعد أن أكدت توقف الجانب العسكري من ذلك النشاط منذ 2003؟

إن الأسئلة الكثيرة التي تطرحها مبدئياً زيارة الرئيس بوش التي سوف يتعين الرجوع اليها بعد إتمامها، تصل بنا الى تأكيد ما سبق ان ذكرناه أكثر من مرة حول أهمية الحوار بين الأطراف في المنطقة لسد الفجوات التي تستغل ضدنا. حوار بين فتح وحماس لوضع حد للوضع المخزي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني ولا تكسب منه إلا إسرائيل. وهو حوار يجب أن يتجاوز حساسيات حقيقية أو مفتعلة. حوار آخر مطلوب هو بين الدول العربية وإيران، وقد بدأ فعلاً في حضور الرئيس أحمدي نجاد لقمة مجلس التعاون الخليجي في الدوحة، والزيارات المتبادلة بين القاهرة وطهران. هذه هي الأوراق الحقيقية التي يملكها العرب ويستطيعون بها ـ بالإضافة الى تسوية الأوضاع في لبنان التي ازداد الأمل فيها، وتطبيع العلاقات بين سوريا ولبنان ـ أن يعززوا موقفهم الذي يعمل الإسرائيليون على إضعافه عن طريق افتعال أو تعميق أو إشعال أسباب الفرقة والانقسام حتى تظل الأوراق في يدهم وفي يد حلفائهم.