حراس الكرسي

TT

من الواضح أن مسلسل تعديل الدستور الجزائري قد انطلق، للسماح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بدورة ثالثة في مقعد الحكم في أفق انتخابات 2009.

لا خلاف أن للرجل منجزات بارزة يقر بها خصومُهُ، لعل أهمها إخراج البلاد ـ ولو جزئيا ـ من المأزق الأمني الحاد الذي عرفته منذ بداية التسعينات. كما أن الوضع الاقتصادي في عهده تحسن بفضل المداخيل النفطية العالية، فتخلصت الجزائر من عبء المديونية التي كانت ترهق كاهل اقتصادها.

يضاف إلى هذين العاملين تراجع نسبي لقبضة المؤسسة العسكرية على الحكم، وعودة قوية للجزائر إلى الساحة الدبلوماسية الدولية، وشروع محتشم في إصلاحات مؤسسية جذرية لانتشال الوقت الضائع الذي يغطي حسب عبارة بوتفليقة «العشرية السوداء» التي أمضاها الشاذلي بن جديد في الحكم و«عشرية الفتنة الأهلية» التي تلت هذه الحقبة.

حدث ما هو قريب من هذه الحالة في اليمن السعيد: تراجع الرئيس علي عبد الله صالح عن قرار الاعتزال، وترشح لمقعد الحكم، مستجيبا «لضغط الجماهير» التي أرادت التمسك بالرجل الذي حقق الوحدة وحفظ الاستقرار للبلاد. وللرجل كذلك مزاياه ومنجزاته التي لا غبار عليها، ولكنه ليس القدر الأبدي لليمنيين.

والواقع أن العالم العربي لم يعرف ما حدث في أفريقيا مرات من استقالة الحاكم، وهو في أوج الصحة واستقرار الحكم من اجل التفرغ لمهن ومتع أخرى غير سياسة أمور الناس. حدث الأمر في السنغال مطلع الثمانينات عندما اعتزل الرئيس سنغور السلطة للتفرغ لكتابة الشعر. كما حدث في الكاميرون من بعد عندما غادر الرئيس احمدو ايجو معترك الحكم مخلفا نائبه على كرسي القيادة.

صحيح أن الرئيسين سوار الذهب وعلي ولد محمد فال احترما تعهداتهما فلم يستأثرا بالأمر بعد انتهاء مأموريتهما الانتقالية، بيد ان العالم العربي لم يشهد لحد الآن حالة واحدة من التداول السلمي الديمقراطي على السلطة خارج المسار الانتقالي في الانظمة الجمهورية.

وضعت بعض البلدان ضوابط دستورية لتأمين خيار التداول، سواء بالنص على السن القصوى للترشح لكرسي الحكم أو بتحديد مدة الدورة الرئاسية. وجمع الدستور الموريتاني الجديد بين المعيارين، وزاد عليهما بمنع مراجعة المواد الدستورية المتضمنة لهذه الضوابط والتقييدات وإلزام الرئيس المنتخب بذلك في قسم تسلمه لمهام الحكم.

إلا أن عوائق التداول السلمي على السلطة ليست فقط قانونية معيارية، بل ترتبط عضويا بطبيعة تركيبة السلطة في العالم العربي وبمحددات

ومعطيات النسق السياسي القائم. وليس المقام مقام تحليلٍ وافٍ أو استقصاء كامل لهذه العوامل، وإنما حسبنا الإشارة إلى عاملين محوريين منها هما من جهة التصور الاطلاقي للحكم الذي عبر عنه عالم الاجتماع المغربي عبد الله حمودي بثنائية الشيخ والمريد، وغياب السلطة المؤسسية الموازية لسلطة الحاكم.

أما التصور الاطلاقي للحكم، فينتج عنه تخويل السلطة التنفيذية دورا أحاديا في الفاعلية السياسية بمفهومها الواسع، أي من حيث هي التعبير عن الرباط الكلي الجماعي. ومن هنا تصبح أمور الدولة، بل وديمومتها واستقرارها مرهونة بكائن بشري زائل، ولذا ندرك كيف تتلو مرحلة الانتقال المفاجئ أو القسري فترات اضطراب وضياع، كما حدث في مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر وفي الجزائر بعد انسحاب بن جديد المفاجئ من الساحة السياسية.

ولا شك أن من مقتضيات الإصلاح السياسي في العالم العربي نزع القداسة عن مركز الرئاسة وتطبيع مهنة الحاكم الذي لا يمكنه أن يستمر في الجمع بين مقام «الرمز» ومسؤولية الموظف الأول في جهاز الدولة. وقد يكون من الملائم هنا التفكير في صيغ دستورية بديلة عن النظام الرئاسي المركزي الذي أخذت به كل الأنظمة الجمهورية في العالم العربي، مما يضمن الجمع بين رئيس يكرس دور الرمز الحامي لهوية البلاد واستقلالها وحرية مواطنيها (بدون ان تكون له وظائف تنفيذية مهمة) ورئيس حكومة مسؤول أمام البرلمان يؤدي وظيفة بيروقراطية تسييرية ضمن الخيارات السياسية المعتمدة.

أما غياب السلطة الموازية، فيعود إلى أسباب مجتمعية بنيوية تتحدد على خط انهيار المجتمع الأهلي التقليدي وهشاشة المجتمع المدني البديل. لقد أدت جملة عوامل ليس هنا مجال الخوض فيها إلى أن تضطلع المؤسسة العسكرية العربية بدور العمود الفقري لنظام الحكم، إلا أن بعض المؤشرات البادية للعيان (كالاتجاه إلى توريث الحكم في الانظمة الجمهورية وتنامي دور الأجهزة الأمنية وطبقة رجال الأعمال..) تبين ان الجيوش لم تعد قادرة في المدى المنظور على الاستمرار في أداء هذا الدور كما سنبين لاحقا إن شاء الله.