فان غوغ الشعر

TT

كلما دخلت إلى مكتبة «غاليافي» أرى كتابا جديدا عن ارثور رامبو، لؤلؤة الشعر الفرنسي. ماذا يمكن ان يضاف إلى سيرة تلك الحياة العاصفة المقصوفة، لا أدري. لكنني مثل السائر في نومه، كل مرة اشتري الكتاب الصادر حديثا. فما اجمل تكرار المتع. ويخطر لي امام هذه الاسراب من الكتب ان رامبو هو فان غوغ الشعر. مات جائعاً ومعدماً ومنسيا وصارت ذكراه احدى الأكبر ثراء في العالم. عاش متنقلا في البحار يبحث عن 50 ألف فرنك يمنحه «الاستقلال المادي» لكي ينصرف إلى كتابة الشعر، ثم رأى ان عليه ان يرفع المبلغ إلى مائة ألف! وترك باريس وذهب إلى عدن والحبشة. وكان يقتصد حتى في الطعام. وحرم نفسه حتى من القهوة، في ارضها، من أجل ان يجمع ما يكفيه لحياة سهلة في باريس. وتعلم العربية. وراح يلقن اطفال حرار القران بلغة التنزيل. وعانى الحر والقيظ. وعمل اعمالا شاقة. وامضى سنوات هي ما بين ساحل الصومال وعدن: «لا يمكنك ان تتخيل هذا المكان، لا شجرة حتى ولو يابسة ولا كمشة تراب. عدن مهد بركان خامد مُلئ برمل البحر. انك ترى الرمل والرماد البركاني في كل مكان ولا خضرة أو نبتة. وترد اجناب البركان الخامد الريح وتمنعها من الدخول فنروح نشوى كأننا في فرن».

كان يشعر بانه بلا قيمة. وان باريس لا تريده ولا مكان له فيها. وعندما أدخل المستشفى في مرسيليا حيث بترت ساقه المهترئة (1891) كتب «لا اصدقاء لي هنا. سوف اموت حيث يرميني مصيري. كم اتمنى ان اعود إلى حيث كنت (الحبشة) هناك لي اصدقاء منذ اكثر من عشر سنين وسوف يشفقون عليَّ. سوف اعثر عندهم على عمل واعيش كما اشاء. اما في فرنسا فلا صديق ولا رفيق ولا احد».

لكن صاحب الساق المبتورة كان يجهل انه في هذا الوقت كانت باريس قد بدأت تهتم بشعره وتبحث عنه. وكان النقاد يتحدثون عن ظهور شاعر شاب لم يدركوا انه سوف يصبح ذات يوم ظاهرة ادبية مثل شهاب لمع وخبا وترك الناس تبحث عن مكان سقوطه. وفيما هو في حَّر عدن وحرار كان يحلم بالسفر إلى كل مكان، الصين والهند وزنجبار، لكنه لم يكن يفكر في العودة إلى فرنسا، ثم يكتشف في نهاية المطاف انه لا مكان للأرواح الحائرة في أي ارض.

«كانت الطيور الذهبية ترسم ظلال شعره» يقول احد كتَّاب سيرته. طيور لا تحط ولا تحلق، بل مسكنها الهواء. طيور تولد في الظلام وترفرف باجنحتها البيضاء كأنها تحمل الأضواء! لا اذكر متى كان أول كتاب اشتريته عن رامبو. لكنني أعرف انني لم أصمد أمام اغراء الكتاب التالي عنه.