العدد الحقيقي لضحايا الأنفال

TT

اثناء المفاوضات التي جمعت قادة جبهة كردستان العراق بقادة البعث، بعد انتفاضة ربيع 1991، كان علي حسن المجيد قد عاتب القيادة الكردية على (مبالغتهم) حول عدد ضحايا عمليات الانفال، قائلا ان كل من قمنا بقتلهم لا يتجاوز المئة الف. منذ ذلك اليوم والبعض لا يهمهم ما حصل فعلا، وأصبح جل همهم هو كيفية التشكيك في الجريمة والاهوال التي لحقت شعبا بأكمله، واحدى اقصر الطرق كانت محاولة التشكيك في الرقم الذي اصبح متداولا بكثرة وهو (182000). المشكلة هي ان هؤلاء يتركون هول الجريمة وطبيعتها الوحشية التي استهدفت في الحقيقة ابادة شعب بأكمله ويلجأون الى التلاعب بالأرقام، والمفروض ان الروح الآدمية التي خلقها الله، غالية ويجب ان تحفظ، لا ان تزهق بجماعات تصل الى حد المئة الف روح، ومع ذلك فإن ما حصل اثناء جرائم الانفال اكبر بكثير من كل الارقام التي قد تخطر على البال. فما حصل فعلا هو تدمير آلاف من القرى وابادة سكان اغلبيتها على بكرة ابيهم، لا بل حتى الينابيع لم تسلم من الخنق، فسدت عيون الماء بأطنان من الاسمنت.

المشكلة الاصلية التي لم يتطرق اليها احد، هي ان عملية احصاء ضحايا هذه الجرائم تعد من اصعب الامور وتعيقها الكثير من العقبات والصعوبات التي تجعل الوصول الى العدد الحقيقي للضحايا ضربا من المحال، وفي هذا المجال هناك وقائع مهمة وحاسمة للغاية، لكن الكل قاموا بنسيانها للأسف وهو ما فتح الباب امام محاولات التشكيك والتلاعب بالأرقام.

صحيح ان الكل اشاروا الى قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (160)، لكن هنالك احداث مهمة تخص مسألة الارقام تحديدا تم تناسيها وخلق كل هذه الاجواء الملبدة. وهذا اصل ما حدث فعلا.

اصدر مجلس قيادة الثورة الحاكم آنذاك القرار (160) بتاريخ (29 ـ 3 ـ 1987)، ونصب علي حسن المجيد حاكما مطلقا على المنطقة الشمالية، وأخضعت كل الأجهزة الحزبية والأمنية والمدنية والعسكرية والمخابرات لأوامره، لكي يقوم بتنفيذ سياسة قيادة الحزب القطرية ومجلس قيادة الثورة في تصفية الثورة الكردستانية، وإفراغ كردستان من سكانها.. والبقية معروفة. وقد قامت المحكمة الجنائية العراقية بالحكم بعد سلسلة طويلة من الجلسات التي بثت على الهواء ونقلت للعالم جزءا من الاهوال والجرائم التي ارتكبت اثناء عمليات الانفال بحق الانسانية. وهو ما دفع المحكمة الى اصدار احكامها على المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة جماعية، وبالمناسبة فإن قرار المحكمة هذا يشكل الارضية القانونية المتينة لتصنيف الجرائم التي ارتكبت ضد شعب كردستان، والغريب ان بعض المتهمين ومنهم المتهم الرئيسي علي حسن المجيد، لم ينكروا التهم المنسوبة اليهم، بل بالعكس اكدوا انهم مستعدون لتكرار ارتكابها لو عاد بهم الزمن الى تلك الايام، وهو ما يقطع الطريق امام كل مشكك في حجم الجريمة وأهوالها.

وبما ان تدمير كردستان وإفراغها من سكانها الاصليين كانت سياسة مرسومة ومقررة وعلى اعلى المستويات، فإن كل التدابير ايضا كانت مدبرة وفق تخطيط شيطاني لا يخطر على بال بني البشر، وأحد اخطر التدابير هي عملية تعداد سكاني جرت ولم يلتفت اليها احد، وهذا التعداد يكشف سر صعوبة التوصل الى العدد الحقيقي لضحايا جرائم الانفال، وهو ما قصدته منذ البداية. المعروف ان العراق كان يقوم بتعداد عام للسكان كل عشرة اعوام، وكان تعداد العام (1987) والذي اجري في السابع عشر من اكتوبر مختلفا عن سوابقه، فقد اعلنت السلطات حينها ان التعداد لا يشمل المناطق التي صنفتها ضمن المناطق المحرمة، وقد كانت هذه المناطق الشاسعة محررة من قبل الثورة الكردستانية آنذاك، وان على سكانها ان يتركوا قراهم وينزحوا الى المجمعات القسرية التي جهزتها لاحتوائهم، وان كل من لا يستسلم لتلك الاوامر لن يعود عراقيا منذ ذلك اليوم، والحقيقة هي ان سكان الآلاف من قرى كردستان لم يتم تسجيلهم في هذا التعداد، وقد عايشت شخصيا تلك الفترة بصفتي احد افراد البيشمركة وشهدت عزوف اهل القرى عن ترك منازلهم وتمسكهم بموطن آبائهم وأجدادهم.

الموثق الذي لا يحتمل الجدل هو ان الغالبية العظمى من ضحايا جرائم الانفال هم من سكان هذه القرى الذين لم يتم تسجيلهم في سجلات الدولة الرسمية، وهناك قرى ومناطق ابيدت على بكرة ابيها ولم يبق من كل سكانها ذو روح، فكيف يمكن اذن معرفة العدد الحقيقي ونحن لا نملك اسماء وعناوين آلاف الضحايا، وليست هناك سجلات رسمية بأسمائهم؟ ويبدو ان العقل الشيطاني الذي خطط لهذه الجرائم قد أخذ في الحسبان ان يقتل الآلاف ممن ليست لديهم اية آثار في السجلات الرسمية، ثم واستكمالا لهذه الاجراءات التي لا تخطر حتى على بال ابليس، قامت السلطات اواخر العام (1988) وبعد الانتهاء من تدمير كردستان وابادة عشرات الآلاف من سكانها، بتعداد جزئي للناجين من ابناء القرى، والذين تمكنوا من الوصول بطرق سرية الى المناطق الخاضعة للسلطة آنذاك، ولم يتم ادخالهم في التعداد العام، بل تم حسابهم كملحق للتعداد المذكور. والمؤكد ان التعمق في دراسة هذه الوقائع سوف يكشف الكثير من الحقائق.

* كاتب كردي

[email protected]