كيف سيذكره التاريخ؟

TT

ثلاثة وأربعون رئيساً مروا في تاريخ الولايات المتحدة، أولهم كان جورج واشنطن، وآخرهم، وليس آخرهم، الرئيس الحالي جورج بوش الابن. من بين هؤلاء الثلاثة والأربعين، تبرز أسماء معينة مقترنة شهرتها بفعل ما، أو بمشروع ما، سواء كانت هذه الشهرة إيجابية أم سلبية. فمثلاً يرتبط اسم جورج واشنطن (الرئيس الأول) بالاستقلال وحرب الاستقلال ضد بريطانيا. ويرتبط اسم إبراهام لينكولين (الرئيس السادس عشر) بالحرب الأهلية وتحرير العبيد، وهو يعتبر المؤسس الثاني للولايات المتحدة، كما هو عبد الملك بن مروان بالنسبة للدولة الأموية، أو أبو جعفر المنصور بالنسبة للدولة العباسية. ويرتبط اسم ودرو ويلسون (الرئيس الثامن والعشرين) بمبدأ تقرير المصير، وفرانكلن روزفلت (الرئيس الثاني والثلاثين) بالحرب العالمية الثانية خارجياً، والصفقة الجديدة داخلياً. أما هاري ترومان (الرئيس الثالث والثلاثون) فيرتبط اسمه بقنبلة هيروشيما الذرية، وجون كينيدي (الخامس والثلاثون) بمشروع الفضاء الأميركي، وذاك الغموض الذي أحاط بمصرعه، وليندون جونسون (السادس والثلاثون) بالمستنقع الفيتنامي، وريتشارد نيكسون (السابع والثلاثون) بفضيحة ووترغايت، ورونالد ريغان (الأربعون) بعودة اليمين إلى الواجهة السياسية الأميركية، وحرب الفضاء، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وجورج بوش الأب (الواحد والأربعون) بحرب الخليج الثانية، أو عاصفة الصحراء، فكيف سيذكر التاريخ الرئيس جورج بوش الابن يا ترى؟

في ظني أن التاريخ سيذكر الرئيس جورج بوش باعتباره من أكثر الرؤساء سوءا في التاريخ الأميركي، متجاوزاً في ذلك سمعة الرئيس ريتشارد نيكسون في الذهن الأميركي، رغم أن نيكسون كان من أعظم الرؤساء الأميركيين في تقديري، فقد أنهى حرب فيتنام، وفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الصين الشعبية. انتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة يُعد في تقديري اتهاما للشعب الأميركي نفسه، فإذا كان انتخابه مبرراً في المرة الأولى عام 2000، رغم أن منافسه آل غور كان أفضل منه بكثير، فإني لا أرى مبرراً لانتخابه مرة ثانية عام 2008، وكان منافسه جون كيري أفضل منه بكثير أيضاً. ففي عهد هذا الرئيس، انهارت سمعة أميركا في العالم حتى بلغت الحضيض، وإن كان العالم يكره أميركا قبل بوش، فإنه أصبح يمقتها في عهده، والسؤال هو لماذا كان ذلك؟

عدة أسباب يمكن أن تفسر الأمر، ولعلنا نبدأ بأولها وهو أنه في عهد بوش انقلبت أميركا على مبادئها التي أرساها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة (ولعل أشهرهم توماس جفرسون، جون آدامز، الكسندر هاميلتون، وجيمس مادسون). فرغم أن الولايات المتحدة ذات جذور دينية في مبدأ أمرها، كما تؤكد على ذلك عبارة «بالله نثق» المنقوشة على الدولار الأميركي، إلا أن العلمانية والحرية والتسامح والفرص المتساوية في البحث عن السعادة، كانت هي الأساس الذي قاد أميركا إلى التفوق والسيادة في نهاية المطاف. ففي عهد بوش، سيطر اليمين المسيحي الجديد على مقاليد الأمور، وهو اليمين الذي يؤمن بأن هناك رسالة سماوية لأميركا في أن تكون «مخلص» العالم، وفي أن قيمها مطلقة، ويجب أن تكون هي قيم العالم، بل أن يُصبح العالم كله صورة من أميركا وأسلوبها في العيش. ربما استطاعت العولمة، ذات النكهة الأميركية، أن تجعل من مدن العالم نسخاً من نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو وبوسطن، ومن أسلوب الحياة الأميركية نموذجاً عالمياً، ولكن أن يتم الأمر من دون فرض، أو حتى بفرض خفي، يختلف عن أن يكون بالقسر أو الأمر المباشر، فحتى الجنة لا تعود جنة، حين يكون الأمر بالإكراه.

باختصار، أميركا اليوم، في عرف هذا اليمين، هي أرض الميعاد، وشعبها هو شعب الله المختار الذي ميزه الله عن بقية شعوب الأرض، أو «الغوييم» في المصطلح التوراتي، كي ترث الأرض وما ومن عليها. وفي ذلك يقول جورج بوش الابن، خلال حملته الانتخابية الأولى: «إن يسوع المسيح هو الفيلسوف السياسي المفضل لدي.. إن المسيح هو الأساس الذي أعيش به حياتي، شاء من شاء وأبى من أبى». هنا نجد نقلة نوعية كبيرة، فبعد أن كانت أميركا هي المبشر بالبراغماتية السياسية، ومبادئ الحرية والمساواة والبحث عن السعادة، كل حسب فهمه، نجدها اليوم مع بوش تتخذ مساراً مختلفاً، لتتحول إلى مبشر ديني، و«صاحبة رسالة إلهية»، على العالم أن يستجيب لها، وإلا فهو الذبح، وهو ما حدث في العراق وأفغانستان، ويبدو أن صاحب الرسالة على وشك الدخول في مغامرة إيرانية قبل أن يعود إلى مزرعته في تكساس، متفرجاً على ما صنعت يداه. لدي قناعة بأن المنادين بأن لهم «رسالة في التاريخ» من المؤدلجين أو أصحاب التطلعات الكبرى، هم دائماً ما يكونون أصحاب عنف وكوارث ومصائب في التاريخ البشري، وليس أدل على ذلك من الرسالة التي بشر بها هتلر وموسيليني، والرسالة الخالدة لأصحاب البعث.

مشكلة بوش أنه يصدق ما يقول، بل إنه يصدق ما يقوله مستشاروه من اليمين الجديد، فشخصيته أضعف بكثير من أن يكون متخذ قرار بنفسه، فهو لا يملك رؤية الآباء المؤسسين، ولا كاريزما كينيدي، أو مبادئ لينكولين وويلسون، ولا ثقة نيكسون، ولا حسم ريغان، ولا عظمة روزفلت، ولا قدرة أيزنهاور، بل ولا حكمة أبيه. لذلك نجد أنه لا يقرر بنفسه، ولذلك يقرر له الآخرون. ففي حربه على العراق، لم يستفد حتى من تجربة أبيه، وتجاهل دور الأمم المتحدة في العالم، رغم أن المفروض أن الولايات المتحدة هي مثل العالم بعد سقوط اتحاد السوفيت، وأخذ بنصيحة، أو قرار وزير دفاعه دونالد رامسفيلد بأن «المهمة هي التي تحدد الحلفاء، وليس الحلفاء هم من يحددون المهمة»، محتقراً بذلك بقية الأمم، في غطرسة جعلت من أميركا «أمة مارقة»، وهي، في عهد بوش، التي تصف من لا يطيعها بالمروق، فإن لم تكن معي فأنت بالضرورة ضدي.

ويبدو أن بوش مؤمن تمام الإيمان بفرضية سامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، وربما هو لم يستوعب طروحات هنتنغتون، فالآخرون يقررون له، ولكنه يؤجج الصراع في عالم لا ينقصه الصراع. يقول جون أشكروفت، وزير العدل في عهده: «الإسلام دين يطلب الله منك فيه أن ترسل ابنك ليموت في سبيله، أما المسيحية فهي عقيدة يُرسل فيها الرب ابنه ليموت في سبيلك». هنا خلط بين الدين والسياسة ما كان لأم البراغماتية والتسامح والديموقراطية، كما تحب أن تكون صورتها، أن تقع فيه. فمهما كان ما نعتقده، فإن ذلك يجب أن يبقى في الصدور ولا يظهر على أنه سياسة متبناة. تصريح أشكروفت هذا يعني أن أميركا قد أصبحت قلعة من قلاع المسيحية في مقابل عالم بأكمله، وكأننا نعود ألف عام إلى الوراء، إلى عهد ريتشارد قلب الأسد، وأباطرة الصليبية في العالم، وهنا تكمن غلطة العمر بالنسبة لأميركا، التي قامت على نبذ الاضطهاد الديني في أوروبا. الغطرسة والغرور هما ما يميز عهد بوش، وعندما تصل الأمم إلى هذه المرحلة، فأذن لها بالسقوط، أو قل هو بداية السقوط.

كان الرئيس جيمس مونرو (الرئيس الخامس) يؤمن بمبدأ عزل الولايات المتحدة عن شؤون العالم، والعالم في ذلك الوقت يعني أوروبا، وكان ذلك مبدأ متطرفاً، ولكنه كان يحاول حماية أميركا. مع ودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت، دخلت أميركا إلى العالم بصورة إيجابية، وأصبح «الحلم الأميركي»، الذي روجت له هوليوود، حلم العالم كله. ومع بوش الابن، تحول هذا الحلم إلى كابوس. لم تعد أميركا هي الحلم الذي بشر به لافاييت وتوكفيل، بقدر ما أصبحت مثلاً للغطرسة والغرور والطغيان في العالم.. مرحباً بك سيادة الرئيس في منطقتنا، منطقة العنف والأديان والمتناقضات وحيث تمتد الصحراء، ولكنه ترحيب فيه كل الأسى.. كل الأسى على أميركا التي ضاعت وأضاعت بفضلكم..