الحل المفروض.. وليحذر المتفائلون

TT

نريد أن نسجل تقديرنا للرئاسة الفلسطينية، لأن صورة الرئيس ياسر عرفات بقيت معلقة في صدر القاعة التي تم فيها عقد المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس جورج بوش. لقد وقف الرئيس بوش تحت صورة الرئيس عرفات مباشرة. وهو بالتأكيد لم يكن سعيدا بذلك، وإن كان قد واصل انتقامه منه بطريقته الخاصة، حيث واصل إعلان المواقف الملائمة لإسرائيل، كما واصل حملته ضد المقاومين الفلسطينيين والتحريض من أجل استئصالهم، تحت شعار الحرب على الإرهاب.

ونريد أن نسجل استغرابنا لسطحية الأسئلة التي وجهها الصحافيون للرئيس بوش، إذ ابتعدت عن قضايا الاستيطان، والقدس، وقرارات الأمم المتحدة، وحق العودة. وابتعدت أيضا عن التطرق إلى المجازر التي تنظمها إسرائيل يوميا في قطاع غزة وفي مدن الضفة الغربية. وبما أننا نعرف أن الصحافيين الفلسطينيين ليسوا سطحيين، بل قادرين على السؤال والمساجلة مع أي كان، فإن استنتاجنا الوحيد من ذلك، أنهم منعوا من توجيه أسئلة محرجة للرئيس، أو طلب منهم أن يكونوا «مهذبين» وألا يطرحوا أسئلة تظهر مدى اختلاف الرؤية الفلسطينية عن رؤية الرئيس بوش، وما قد يشكله ذلك من إحراج لأكثر من طرف.

وقد حفلت الأيام الماضية، بسلسلة من المقالات العربية والإسرائيلية والدولية، حللت رحلة الرئيس بوش وأهدافها وغاياتها وما سينتج عنها، بطريقة لم يعد فيها زيادة لمستزيد. وأجمعت المقالات كلها، على أن هذه الرحلة لن ينتج عنها أمر جوهري. وهناك من قال إن هدفها لا يمت للمنطقة بصلة، لأن هدفها الفعلي هو تحسين سمعة الرئيس الذي سيرحل عن منصبه بعد عام، والقول بأنه رجل سلام وليس رجل حروب فقط، وتحسين سمعة حزبه الجمهوري في الانتخابات التي بدأت فعليا. وهناك من قال أيضا إن هدفه من الزيارة لا يخرج عن إطار الدعم العام لإسرائيل، والدعم الخاص لرئيس الوزراء إيهود أولمرت الذي يواجه خطر الإقصاء عن المنصب بعد صدور التقرير النهائي عن الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في العام الماضي. كل هذا قيل مع أشياء كثيرة أخرى لا تخرج عن هذا الإطار. ولكن اللافت للنظر أن المقالات الإسرائيلية كانت هذه المرة أشد قسوة على الرئيس وجولته من المقالات الفلسطينية أو العربية. وبما أن المقالات الإسرائيلية المرحبة به وبمواقفه كانت نادرة، فقد بادرت بعض الصحف الإسرائيلية إلى ترجمة هذا المقال الإسرائيلي المرحب به أو ذاك، إلى اللغة الانجليزية، ليستطيع الرئيس قراءته فورا، وحتى يشعر بالارتياح، وحتى لا يتكدر مزاجه.

ولكن لماذا كانت المقالات الإسرائيلية سلبية تجاه الرئيس بوش؟ لسببين معلنين: السبب الأول أنه سيضغط على إسرائيل لكي توقف (توسيع) البناء في المستوطنات «العشوائية». وهناك في إسرائيل تيار جامح، من اليمين واليسار، يتمنى ألا يحدث هذا الضغط، وأن يستمر بناء المستوطنات وتوسيعها أينما كان. والسبب الثاني أن بوش يتمنى على الإسرائيليين أن يبدأوا مع الفلسطينيين مفاوضات حول قضايا الوضع النهائي تنفيذا لما اتفق عليه في مؤتمر أنابوليس، ولكي يظهر أن الرئيس بوش جاد في تعهداته. وهناك في الوزارة الإسرائيلية حزبان يهددان بالاستقالة من حكومة أولمرت، والإطاحة بالحكومة بالتالي، إذا بادرت إلى هذه المفاوضات (حزب ليبرمان وحزب شاس)، وبما أن بوش حريص على أن يبقى أولمرت في منصبه، وكرمز من رموز نجاح سياسته، وكوسيلة من وسائل القول بأن حرب حزب الله فشلت ولم تستطع الإطاحة به، فقد بادر إلى التدخل في الشؤون الإسرائيلية الداخلية، وخاطب الحزبين علنا طالبا منهما عدم الاستقالة من الحكومة.

إن الإسرائيليين يطربون حين يقدم الرئيس بوش على إعلان مواقف مؤيدة لإسرائيل، ولكنهم يصبحون ناكرين للجميل حين يقول لهم رئيس أميركي سأضمن لكم بقاء 90% من المستوطنات والمستوطنين، ولكن ثمن ذلك هو التخلي عن 10% من المستوطنات والمستوطنين. إنهم يطلبون كل شيء لأنفسهم، ولا يحبون أن يروا غيرهم في العالم كله، حتى لو كان «غيرهم» هذا هو أكبر دولة عظمى راعية لهم ولعدوانهم وتوسعهم. وبعيدا عن هذا كله فمن المفيد أن نسجل بعض الملاحظات حول مواقف تم الإعلان عنها أثناء زيارة بوش، ولم تحظ بالاهتمام الكافي في الإعلام.

أولا: استعملت إسرائيل أثناء الزيارة تعبير «المستوطنات خارج جدار الفصل». قالت إن الضغط الأميركي سيتركز حول «المستوطنات خارج جدار الفصل»، وبما يعني أن قضية المستوطنات الأساسية، أي 80 ـ 90 % من المستوطنات داخل الجدار الفاصل الذي تم بناؤه، أصبحت أمرا خارج النقاش أو خارج المفاوضات. والأمر الأخطر الذي يترتب على ذلك هو أن جدار الفصل هو حدود دولة إسرائيل الجديدة، وهو أيضا حدود عملية الاقتسام للضفة الغربية التي تعمل إسرائيل من أجل إقرارها وفرضها على المفاوض الفلسطيني.

ثانيا: سئل الرئيس بوش في المؤتمر الصحافي مع الرئيس عباس عن قرارات الأمم المتحدة، فتنصل من تلك القرارات قائلا «إن الأمم المتحدة لم تنجح في الماضي»، وشدد على أهمية المفاوضات الثنائية فقط. وهذا الإصرار على الهرب من قرارات الأمم المتحدة هو مطلب إسرائيلي دائم، لأن قرارات الأمم المتحدة بأغلبها هي ضد مطالب وممارسات إسرائيل. وقد كان من آخر تجليات هذا الموقف، معارضة إسرائيل السريعة والحاسمة، لطلب الولايات المتحدة نفسها، استصدار قرار من مجلس الأمن يدعم قرارات مؤتمر أنابوليس. وإسرائيل هنا لا تخشى دعم قرارات أنابوليس، ولكنها ترفض فتح أية نافذة، ومهما كانت صغيرة، لدخول الأمم المتحدة وقراراتها إلى ساحة التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وحتى لو كانت الولايات المتحدة الأميركية هي من يقف وراء هذا القرار.

ثالثا: أعلن الرئيس بوش صراحة أنه لن يضغط على إسرائيل، مؤكدا أن الدور الأميركي فقط هو «تقديم المساعدة». وحين يتكرس هذا الموقف الأميركي، فإن إسرائيل تدرك فورا أنها تستطيع طرح تصورها للحل النهائي كما تريد، وعلى الفلسطينيين حينئذ أن يقبلوا به لأنه ليس لديهم خيار آخر، ولأن الأكبر للتسوية، يرفض التدخل، ويرفض الضغط على إسرائيل. أما الوجه الآخر للعملة، فهو أن الضغط سيكون من نصيب الفلسطينيين فقط، وربما يكون ضغطا صامتا، ويعتمد على اللبيب الذي يفهم الإشارة.

على ضوء هذه النقاط الثلاث، لا تبقى سوى صيغة واحدة للتسوية المنشودة، وهي الصيغة التي تريدها إسرائيل، وقد بلورت إسرائيل هذه الصيغة وقالت إنها ستعرضها على الرئيس الأميركي للمداولة، وأسمتها (معالم الدولة الفلسطينية)، وخلاصتها أن إسرائيل تريد دولة فلسطينية خارج أراضي الجدار الفاصل، دولة منزوعة السلاح، تسيطر إسرائيل على سمائها وبحرها ومعابرها البرية، وبشرط أن يتواجد الجيش الإسرائيلي بشكل دائم في منطقة الغور على ضفة نهر الأردن، وأن يكون من حق الجيش الإسرائيلي أن يعود إلى الضفة الغربية كاملة في حالة أي خطر داهم. وطبيعي أن الفلسطينيين سيرفضون هذه الصيغة للدولة، وطبيعي أن الولايات المتحدة لن تضغط على إسرائيل لتغييرها، وعلى الفلسطيني بعد ذلك أن يختار بين الاحتلال القديم باسم الحكم الذاتي وبين الاحتلال الجديد باسم الدولة الفلسطينية. هذا الحل الجديد سيعرض على الفلسطينيين ليقبلوه. وإذا لم يقبلوه سيفرض عليهم. وستقول الدولة العظمى أنه حل سيفرض على الطرفين..... من أجل حفظ ماء الوجه فقط.

الحل المفروض هو حصيلة جولة بوش. هو هدفها غير المعلن. وليحذر المتفائلون.