إفشاء السر

TT

تساءل كثيرون عن «سرّ» ياسر عرفات. كيف استطاع، طوال ثلاثة عقود، أن يبقى على رأس القيادة الفلسطينية. لم يكن في ذكاء «الرجل الثاني» صلاح خلف. ولم يكن في ثقافة خالد الحسن (أبو السعيد)، ولم يكن أكثر تفانياً وشجاعة من خليل الوزير (أبو جهاد). لم يكن يتميز كثيراً عن بقية المؤسسين ومع ذلك سبقهم منذ اللحظة الأولى وظل أمامهم، يعدو، ويسحر جماهيره، يخفي صلعته بالكوفية الفلسطينية ويخاطب المقاتلين باللهجة المصرية التي لم تفارقه منذ كان طالب هندسة في القاهرة.

كانت هناك تحليلات كثيرة «لسّر» أبو عمار؛ من داخل الحركة ومن خارجها، من رفاقه ومن دارسيه ومن مراقبيه. ومن خصومه. ولا أدري من أي فئة من هؤلاء يمكن أن نصنّف الزميل بلال الحسن، الذي جاء من عائلة شارك جميع أفرادها في العمل الفلسطيني، كل بصفة، وانخرط جميع أفرادها في العمل السياسي على أعلى مستوياته، من خالد، الأخ الأكبر، إلى هاني، الذي نتمنى له الشفاء الكامل. وكان بلال على يسار جميع الإخوان، خصوصاً في العلاقة مع عرفات، كما كان خارج تيار «فتح» الرئيسي، خلافاً للأشقاء.

لذلك كانت علاقته مع أبو عمار محكومة بما يمكن تسميته «بالود الموضوعي» أي الصداقة التي لا تمنع النقد والمساءلة، خصوصاً عند المفترقات الكبرى، كما حدث أيام أوسلو. وعلى صعيد شخصي، كانت تربطني صداقة شديدة بالراحل «أبو السعيد». وعندما غاب قبل سنوات وتأخرت نحو أسبوع في الكتابة عن غيابه تلقى بريد «الشرق الأوسط» رسالة من «الطلاب الفلسطينيين في الخارج» تعاتبني على التقصير. ولم يكن التقصير متعمدا ولا كان أيضا مبررا، لا في حق الصداقات ولا في حق القامات.

أما العلاقة مع بلال فكانت دوماً علاقة إعجاب بكاتب فلسطيني قدير ومثابر وعلى معرفة عميقة. وقد شعرت دائماً أن بلال يشكل مرجعاً معتبراً بين الكتّاب الفلسطينيين، من دون أن يطغى انخراطه القومي على موضوعية العمل.

بهذه القناعة القديمة قرأت كتابه الجديد «قراءة في المشهد الفلسطيني». وبالكثير من الفضول أردت أن أستعيد مسألة تقييم ياسر عرفات. وأعتقد أن بلال هو الذي كشف سر الرجل الأول. ويمكن اختصار ذلك السر بالقول إن ياسر عرفات القدوة «كان دائماً هناك». كان يحضر قبل الجميع إلى أرض المعركة والى ساحة القرار. وكان يخطئ ويصيب ولا يتوقف حيث يخطئ ولا حيث يصيب. كان يحمل المسيرة على كتفيه من دون أن يتطلع خلفه أو حوله. يسائله الرفاق فيسمع ولا يصغي. ويغضبه الحكام فيمحو ولا يسجل. وكان لا ينام قبل أن يتصل بالمقاتلين في أي مكان، بأي وسيلة كانت. لقد أدرك أنهم سنده الأول وكل الباقي تفاصيل، فأحبهم وكرس نفسه لهم وظهر دائماً بمظهر واحد هو مظهرهم.