وصية قاتل الرئيس!

TT

تظل قضية اغتيال الرئيس اليمني «الشمالي» أحمد حسين الغشمي في 24 يونيو 1978 من أغرب القضايا في تاريخ الاغتيال السياسي على المستوى العالمي، فأحداثها تشبه فيلما سينمائيا من نسج الخيال.. رئيس دولة يستقبل في مكتبه مبعوثا خاصا من قبل رئيس آخر، فيسارع المبعوث بفتح حقيبته الملغومة في عملية انتحارية تودي بحياته وحياة الرئيس!

فرغم مرور قرابة ثلاثة عقود على تلك الحادثة، إلا أنها تظل أكثر قضايا الاغتيال «غرائبية»، وأعظمها إثارة للدهشة، ولذا فإن الكشف عن وصية منفذ الاغتيال، التي نشرتها صحيفة «26 سبتمبر» اليمنية بتاريخ 10 يناير الجاري، أعاد إلى الأذهان من جديد قصة ذلك الاغتيال، الذي لعب دور المنفذ فيه مهدي أحمد صالح حمدي، المعروف بـ«تفاريش» أي الرفيق باللغة الروسية، وهو رجل شبه أمي، عمل فراشا في إحدى المدارس، وفي موجة المد الشيوعي وجد نفسه يطفو على سطح الأحداث.. ومثل «تفاريش» بتعليمه المحدود، وحماسه الذي لا يرتكز على وعي، ولا يستند إلى نضج، غالبا ما يكون وقود الصراعات، والأداة التي يستغلها المنظرون لتحقيق غاياتهم، ففي وصية ذلك الرجل الذي لعب دورا انتحاريا تتجلى مظاهر غسل أدمغة البسطاء ليتحولوا إلى قنابل موقوتة، فلقد تعرض هذا الرجل إلى عمليات من الشحن النفسي حولت الآخرين في عيونه إلى «رفاق» يستحقون الحياة أو «خصوم» ليس لهم لديه سوى الموت.. لذا جاءت وصيته مسكونة بملامح الصراع وتشنجات الخطاب اليساري الشائع في عصره، ويختم خطابه بالقسم بتنظيمه ومعزة الرفيق سالمين ـ الرئيس سالم ربيع علي ـ أنه لن يبخل بالنفس، ولم يكن يدرك المسكين أن الرفيق سالمين الذي أقسم بمعزته سيلحق به بعد يومين من عمليته الانتحارية رميا بالرصاص على أيدي «الرفاق»، الذين تغنى بإخلاصه لهم.. وتختلف الروايات إن كان ذلك الرجل محدود التعليم، فراش المدرسة البسيط، هو المبعوث الأصلي الخاص الذي بعثه سالم ربيع علي أم أنه مجرد شخص دفع للقيام بدور «الدوبلير» للمبعوث الأصلي الذي اختفى في لعبة استخباراتية مجهولة.

ولا يختلف حال الانتحاريين اليوم عن حال «تفاريش»، فجلهم من السذج وأنصاف المتعلمين، الذين يقعون تحت طائلة الاستهواء من قبل قوى منظرة قادرة على استثارة حماسهم تجاه أفكار مخادعة تتشح شعاراتها الظاهرة بالبياض، وستظل قوافل الانتحاريين تتوالى في عالمنا العربي حتى ينبت في دواخل أفراد هذه الأمة وعي قادر على نقد الأفكار ومحاكمتها قبل الانخراط في مسلسل الموت المجاني.. ولست أدري كيف يمكن أن ينبت مثل هذا الوعي إذا ما استمرت سباخ الزمن!

[email protected]