إنه التقسيم

TT

يدعي اللبنانيون الحرص على الوحدة الوطنية ومحاربة رياح ونوازع التقسيم. وهم في هذا الادعاء صف واحد وتكاذب وحيد. والحقيقة المبسطة أن لبنان قسَّم وانتهى الأمر. ليس إلى فئات وطوائف، بل إلى دول متعادية ترفض الاعتراف بالدولة اللبنانية.

وقبل أن يخيَّل إلى أحد أن في هذا الكلام مبالغات أدبية وصوراً رمزية، يحسن بنا أن نتأمل في هدوء، خريطة التفكك اللبناني، الذي لم يعد ينقصه سوى الحدود والخنادق و«الخطوط الخضراء»، كما كانت. تسمى خطوط الموت والقتل والقنص والجريمة أيام الحرب.

هذا تقسيم معلن: أن يرفض اللبنانيون الحوار فهذا تقسيم وخطاب أعداء لا خطاب مواطنين في دولة واحدة. وأن تسعى أمم الأرض للجمع بين اللبنانيين ويرفضون، فهذا ما يحدث بين الدول المتعادية لا بين الشعب الواحد. وأن تتحول الأزمات الداخلية إلى قرارات في مجلس الأمن، فهذا يحدث عادة بين الكوريتين والألمانيتين والفيتنامين والصينين، الشعبية والوطنية، وجميع الدول ذات الشعب الواحد والدولتين المتنازعتين.

ليست في ذاكرتي مفاوضات في صعوبة مفاوضات الأزمة اللبنانية، إلا مفاوضات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. كانت الدول تسعى إلى معاهدة مشتركة لكنها لا تثق ببعضها البعض. وكانت تريد أن تنظم عداءها لا صداقاتها. ولذلك اقترحت مؤسسات للرقابة وفرقاً للتفتيش ولجاناً مشتركة. وبعد ذلك كله يتم التوصل إلى توقيع المعاهدة، لكن ليس بين أصدقاء، بل بين أعداء. فالاتفاق ليس على إلغاء الأسلحة، بل على التساوي في القدرة على الدمار والقتل وعلى استخدام حق النقض وعلى إبقاء العالم ملوثاً ومهدداً، ولكن بالتوافق.

وهذا تماماً ما يحدث في لبنان. ولا تكذبوا على أنفسكم. اللبنانيون مختلفون على حجم أسلحة تدمير البلد. كل فريق يريد حق التدمير لنفسه وحق الافتراق والقسمة لجماعته. والمشهد اللبناني ليس مشهد قبائل وطوائف تتناحر، بل مشهد دول خارجية وداخلية تتقاتل وتحشد وتطلب وسيلة لتنظيم العداء لا لإقامة الحل. تلك هي اللغة السائدة في لبنان اليوم. ولا قناع يقنعها. ولا أحد يحاول ولو شكلياً تلطيف هذا التقسيم أو تغليفه. إنها لغة مجاهرة فاقعة وقليلة الذوق وخالية تماماً من الحكمة. في الحرب الأهلية أقام اللبنانيون في ما بينهم خنادق سهل ردمها. أما الآن فقد أقاموا ويقيمون جدراناً مثل جدران شارون. يملأون النفوس ويشحذون خناجر الفرقة والفتنة والرفض. وعندما يأتيهم مصلح من الخارج يطردونه لأنه يذكرهم بوحدتهم ودولتهم ووطنهم، ولا يريدون، أو لا يقدرون.