«النكد» الذاتي

TT

دولة فلسطينية مترابطة جغرافيا، هذا هو الجديد والذي يبشر بانفراجة حقيقية فيما قاله الرئيس بوش في زيارته للأراضي الفلسطينية. وزيارة بوش للرئاسة الفلسطينية في رام الله، هي اعتراف أميركي على أعلى مستوى بالدولة الفلسطينية الوليدة، اعتراف دي فاكتو (أي أمر واقع) وليس دي جور (أي بالمعنى القانوني للكلمة). الدولة الفلسطينية المتماسكة التي تربط غزة بالضفة الغربية كانت من ضمن المطالب الفلسطينية في المفاوضات الشائكة. وإن كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نفسه متفائلا بزيارة بوش، فهل سنكون أكثر فلسطينية منه؟

حق العودة الذي صوره البعض على أنه أصبح موضع مقايضة بين هوية إسرائيل اليهودية وظهور دولة فلسطين العربية ليس من اختراع جورج بوش، فموضوع حق العودة وطرح الخيار أمام فلسطينيي المهجر بين التجنس بجنسيات أوروبية وكندية أو التعويضات المالية، هو صفقة كانت مطروحة منذ عهد الرئيس بيل كلينتون. ولكن في عشوائية الكلام وفوضى المفردات التي تتناثر على الورق والشاشات، يكتب ويقال أي شيء مهما كان بعيدا عن الحقائق. في هذا الجو المعبأ الذي سيطرت فيه الأصوات المتطرفة على عقول العرب وقلوبهم، لم نعد نمارس فيه «النقد» الذاتي، وغدونا مدمنين على «النكد» الذاتي.

* سفير سابق ومناضل حالي

إضافة إلى ما لدينا اليوم من جماعات كثيرة وجدت ضالتها المنشودة في شتم الغرب كمصدر للتربح السريع والنجومية المجانية على الورق والشاشات، ظهرت لنا فئة جديدة من السفراء المتقاعدين، أطال الله في عمرهم، ممن مثلوا بلدانهم في عواصم راقية واستمتعوا بالمناصب والمميزات، نجدهم اليوم ينعتون بلدانهم بـ «التخاذل» و«الانبطاح» على الشاشات. تحول السفير السابق وبعد أن ترك وزارة الخارجية، إلى مشروع مناضل، ولن تفاجأ إن قرأت خبرا ذات يوم يقول إنه «تم القبض على انتحاري في السبعين من العمر قبل أن يفجر نفسه». النضال المتأخر كالمراهقة المتأخرة قد يأتي في وقت غير مناسب. أمر مستغرب حقا أن يتحول السفير الذي كان ملتزما بسياسات بلاده ومدافعا عنها ومستفيدا من كل الميزات التي يمنحها له منصبه الرفيع ومن الميزات التي لا يمنحها له أيضا، يصحو في الصباح المبكر للعمل في وزارة الخارجية أو في سفارة بلده لمدة عشرين عاما أو أكثر، أن يتحول هو نفسه بمجرد تقاعده إلى مناضل على الورق نظريا مع الاحتفاظ بما كسب من منصبه السابق عمليا.

* للكويت الحق في عدم الرد

الوجوه نفسها والأصوات نفسها التي طالبت الكويت بعدم استقبال الرئيس الأميركي جورج بوش في الكويت منذ ثلاثة أيام مضت، هي بشحمها ولحمها الأصوات والوجوه والأيدي ذاتها التي صفقت لصدام حسين يوم غزوه للكويت. هي الوجوه نفسها التي خرجت علينا بفكرة تقسيم العالم العربي إلى بلاد الثورة وبلاد الثروة. وهي التي زينت غزو صدام الهمجي لدولة عربية، على أنه محاولة لتقسيم الثروة بين العرب، وكأن صدام كان رئيسا لدولة فقيرة معدمة ليست فيها قطرة بترول أو قطرة ماء.

صدام أغدق بسخاء من نفط العراق على هذه الأصوات التي تصدر صحفا يومية دونما الحاجة لأن تنشر إعلانا تجاريا واحدا، رغم أنها تصدر في أغلى عواصم العالم من حيث أجور الموظفين واستئجار المكاتب والضرائب إلى آخر هذه النفقات الباهظة. لا تنشر هذه الصحف إعلانا واحدا، ولو من باب رفع العتب، لعلنا نتردد قبل اتهامها. هل هي بقايا أموال صدام التي تقاسمها الورثة بعد إعدامه التى أنتجت لنا صحفا يومية في عواصم كبرى من دون إعلانات؟ للأسف في عالم تسيطر عليه الفورة والنشوة بشعارات الثروة والثورة، لا أحد يسأل عن مصدر تمويل أي شيء، المهم هو أن يغلف أي عمل سواء أكان «شين» أم «زين» بعبارات ظاهرها وطني، كالمطالبة بمنع رئيس دولة كبرى من دخول البلد الفلاني أو العلاني، لأنه، «مجرم حرب»، كما يريد الشارع أن يسمع، ثم فليذهب صاحب العبارة وليسرق كل شيء فلن يسائله أحد، ربما لأنه يحاول تقسيم الثروة على طريقته. السؤال هو هل ما زال صدام حسين يحاول غزو الكويت من القبر؟ وهل أموال صدام ما زالت مسخرة لهذا الغرض؟ الكويت لم ترد ولم تهتم بمحاولة تخويفها بالشعارات، مرة باسم تقسيم الثروة، ومرة بأنها قد تكون المسؤولة عن إشعال حرب أخرى في المنطقة. الكويت كانت ستكون محتلة ومستباحة من جماعة تقسيم الثروة إلى اليوم لولا تدخل الولايات المتحدة الأميركية وإرسال جنودها لتحرير الكويت عام 1991 وبتحالف عربي سوري مصري سعودي، فللكويت كل الحق في الاحتفاء بمن حرروها من العرب وغير العرب، بمن فيهم الرئيس الأميركي، فالكويت لم تستقبل جورج بوش بصفته الشخصية، ولكن لموقعه السيادي كرئيس للولايات المتحدة.

*أوباما لن يكون رئيسا؟

من لا يعرفون الولايات المتحدة، صدقوا استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات الحزب الجمهوري في ولاية نيوهامبشر والتي قالت بتقدم المرشح الرئاسي باراك حسين أوباما على منافسته القوية هيلاري كلينتون بفارق أكثر من عشر نقاط، ثم فوجئوا بفوز السيدة كلينتون. كرجل عاش في الولايات المتحدة لمدة عشرين عاما، دراسة وتدريسا، كنت متوقعا ما حدث ولم أفاجأ به، فالقصة تكمن في الفارق بين طريقة التصويت لاختيار مرشح الحزب في ولاية أيوا التي فاز فيها أوباما وطريقة نيوهامبشر التي فازت فيها كلينتون. في ولاية أيوا، يكون الاختيار بعقد المجالس العلنية (كوكس) على الطريقة القديمة للديموقراطيات، أي أن يجتمع المسجلون في الحزب ويتحاورون ويقترعون علنا المرشح الذي سيصوتون له. أما في ولاية نيوهامبشر، فالاقتراع يكون سريا، أي يذهب المواطن للإدلاء بصوته بمفرده في سرية تامة. في مجتمع ما زالت تتجذر فيه الفوارق بين البيض والسود في عنصرية كامنة يحاول التغطية عليها بمظاهر الحداثة، ليس مفاجئا أن يقول الناس في العلن بأنهم ليسوا عنصريين، وأن يسجلوا في الوقت نفسه مواقفهم العنصرية في السر أو عندما يلتقون ببني جلدتهم. انتخابات (الكوكس) في ولاية أيوا كانت علنية، ومن الصعب على أي مواطن، حتى لو كان عنصريا، أن يعلن ذلك على الملأ، لكن انتخابات نيوهامبشر السرية سمحت للكثيرين بأن يسجلوا عنصريتهم.

الانتخابات القادمة في ولاية نيفادا ستكون على طريقة (الكوكس)، أي انتخابات عن طريق المجالس العلنية، على غرار ما حدث في ولاية أيوا، لذا فقد يفوز أوباما بولاية نيفادا، أما السبعة والأربعون ولاية الأخرى فجميعها يقترع على طريقة نيوهامبشر السرية. في تلك الولايات أعتقد أن حظ أوباما سيكون أقل مما تتوقعه استطلاعات الرأي.

في انتخابات سابقة، حض كثير من الأميركيين الجنرال السابق كولن باول للترشح لمنصب الرئاسة الأميركية. وباول كان أكثر شعبية من باراك أوباما لدى الجمهوريين والديموقراطيين، على حد سواء، لكن زوجة باول، السيدة ألما باول، منعته من الترشح خوفا عليه من الاغتيال، فترشح رجل أسود له فرصة في الفوز برئاسة الولايات المتحدة، يدعو كل متطرف وعنصري إلى ارتكاب حماقة القتل. الخوف اليوم على باراك أوباما لا يقل عن خوف زوجة كولن. وهذا عامل مهم، لا بد وأن يؤخذ في الاعتبار لمن يحاولون فهم السياسة الأميركية الداخلية.