الحركات الشعبية وأسبابها

TT

في كتابه الفذ ((The true believer الذي صدر في بداية خمسينات القرن الماضي، يحدد إريك هوفر شرطين لازمين لحدوث الحركة الـــشـعبية (The mass movement) في النظم السلطوية، أن تتحسن أحوال الناس في نفس الوقت الذي تخف فيه قبضة الدولة، وهو بذلك يبدو معارضا بقوة للفكرة الشائعة عن أن الناس تثور وتخرج إلى الشارع بدافع من شدة التعاسة وقسوة السلطة، هكذا يكون قد حدد بدقة الظروف التى ستخرج فيها الناس بعد أربعين عاما في موسكو للقضاء على سلطة الحزب الشيوعي وإعادة مسار التاريخ في روسيا إلى الحرية والديموقراطية.

الفقر المدقع والإحساس المر بالتعاسة والضياع ليست جميعها سببا في خروج الناس إلى الشارع، غير أنهم في اللحظات التي يشعرون فيها بالتحسن في أحوالهم المواكبة لارتخاء قبضة الدولة على رقابهم سيتخذون بالفعل القرار بالخروج إلى الشارع في مواجهة الحكومة ليعلنوا مطالبهم وهي تحسين أحوالهم وظروفهم المعيشية. هذا يحدث على مستوى الجماعة أما على مستوى الأشخاص، فنحن نجد سندا لهذه النظرية في المصطلح الشعبي، وذلك عندما نصف شخصا كان ضائعا منسحقا ثم تحسنت أحواله فبدأت تظهر عليه علامات السخط والتمرد، بوصفه «أصله شبع» وعندما يحقق شخص ما ثروة مفاجئة تدفعه إلى السفه نقول عنه أن «الفقر له دواء» ليس معنى ذلك إنني أفضل الفقر لأي مخلوق لأنني أدرك أنه المنبع الأساسي للشر، أنا فقط أرصد واقعا في حياة الناس، ليس الجوع إذن هو ما يدفع إلى حركات الاحتجاج بل هو درجة أعلى من الشبع يفتح شهية الناس إلى المزيد.

والكلمة التي يستخدمها إريك هوفر هي (Movement ـ حركة) تندرج تحت مظلتها كل الثورات والحركات والهبات الشعبية ابتداء من الثورة الفرنسية وانتهاء باعتصام موظفي الضرائب العقارية في الشارع لمدة اسبوعين تقريبا أمام مجلس الوزراء مطالبين بمساواتهم في الأجور والحوافز مع زملائهم من موظفي الضرائب العامة وهو ما استجابت له الحكومة بالفعل. وقبل ذلك استجابت الحكومة لطلبات عمال الغزل والنسيج في المحلة الكبرى بعد حركة مشابهة نقلت فيها الفضائيات صيحاتهم المؤلمة عن أحوالهم المعيشية السيئة إلى العالم كله وخاصة عندما تقول سيدة: «أنا عندى خمس عيال.. واعمل منذ عشرين عاما.. ومرتبى مائتا جنيه.. يرضي مين الظلم ده؟

الواقع أن هذا الظلم لا يرضي أحدا، وكلمات السيدة صحيحة وصادقة فيما عدا كلمة واحدة هى أنها «تعمل»، الواقع أنها لا تعمل وزملاؤها أيضا لا يعملون، أنا آسف للصدمة التى سببتها لك الآن، ولعلك تفكر الآن في أن الحكومة المصرية قامت بتعييني محاميا عنها وأطمئنك أن ذلك لم يحدث، فأنا على أرض الملعب أجيد اللعب في مراكز الهجوم وليس في خطوط الدفاع، أنا مسؤول عن كلامي وسأقيم عليه الدليل حالا، مصر لا تشكو الآن من قلة أو ندرة عمال النسيج المحترفين بل من عدم وجودهم أصلا، هذا ما يكشف عنه تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم القرار التابع لمجلس الوزراء («الشرق الأوسط» في 23 ديسمبر 2007)، التقرير يقول ان حجم العمالة المطلوبة للمنشآت المنضمة لبروتوكولات الكويز (Q.u.i.z) خلال العام المقبل (2008) هو 134 ألف عامل وأن العمالة المطلوبة خلال العام الحالي (2007) هي 29 ألفا، وبروتوكول الكويز ثلاثي يتم بمقتضاه تصدير منتجات مصرية إلى أمريكا بغير جمارك شرط الاستعانة بمكون إسرائيلي 10،7%.

ويقول الدكتور ماجد عثمان رئيس مركز المعلومات والمشرف على المرصد المصري للتعليم والتدريب والتوظيف الذي أصدر التقرير، ان الأسباب الحقيقية التي تدفع الشباب إلى رفض الانخراط في هذا النوع من الوظائف هي تفضيل السفر إلى الخارج والوظائف المكتبية على مشقة العمل في قطاع الغزل والنسيج.

لقد كتبت كثيرا من قبل عن حتمية التدريب وأهميته في التحول إلى الاقتصاد الحر، غير أننى اكتشفت الآن أن الناس تتحول إلى الاقتصاد الحر بجيوبها فقط وليس بعقولها أو بتركيبتها النفسية، لابد من بطانة نفسية جديدة للبشر يستطيع الاقتصاد الحر الاستناد إليها، لابد من إعادة تأهيل الناس عقليا ونفسيا للتعامل مع واقع جديد يفرض عليهم العمل ودخول سوق المنافسة، لابد من اجتثاث كل حشائش الأفكار الاشتراكية الضارة من عقولهم ونفوسهم، كل الناس بمن فيهم الحكومة بالطبع.

من الأخطاء الشائعة في الفكر السياسي أن الاشتراكية تحترم العمل والعمال وتعمل من أجلهم، الواقع أن الاشتراكية والاشتراكيين يحتقرون العمل اليدوي ويحاولون الإفلات منه بكل الطرق، هم يحتفون أعظم الاحتفاء بالمكاتب والعاملين فيها ليس لأن العمل فيها مريح كما يقول التقرير تأدبا وحياء، ولكن لأسباب أخرى لابد من إيضاحها، الشاب يحلم بالعمل المكتبي في الحكومة لأن ذلك سيعطيه الفرصة لاحتلال موقع يطلق منه النار على الجماهير فيدافعون عن أنفسهم بتغذية أدراج مكتبه بالأموال. في العمل المكتبي سيكون رابحا على طول الخط، سيحصل على مرتب بسيط، ثم حوافز ربما تصل إلى أضعاف مرتبه غير أن البقشيش والمكافآت والإكراميات التي يحصل عليها من المواطنين الذين ستقع أوراقهم وأرزاقهم تحت يديه، ستكون كبيرة وربما بلا حد أقصى.. لماذا يذهب هذا الشاب ليعمل في مصنع نسيج يحصل فيه على ألف جنيه في الشهر على ألأقل؟

الطريف أن عمال وموظفي الضرائب العقارية حولوا حركتهم الاحتجاجية إلى حركة احتفالية جاؤوا فيها بزوجاتهم وأطفالهم، وعندما احتفلوا بانتصارهم نشرت إحدى الجرائد صورة فوتوغرافية لسيدة وهي تقبل زميلاتها، كانت تحمل جهاز التليفون المحمول بيدها اليسرى التي رصعتها السوارات الذهبية، ربما كانت هذه السيدة هي نفسها التي صاحت من قبل: باخد مائتي جنيه في الشهر.. أعمل بيهم إيه؟

الإنتاج في ثقافة القطاع العام الاشتراكي يعمل بالسالب، أي أن الخسارة تتناسب طرديا مع حجم الانتاج، يعني خسارة المصنع تتزايد بزيادة الانتاج، سأعطيك مثالا لشرح ذلك، مصنع جرارات، لنفرض أن كمية الحديد الصلب اللازمة لصنع جرار زراعي واحد ثمنها 50 دولارا، وتكلفة تصنيعها حوالي 50 دولارا أخرى، غير أنك عندما تعرض هذا الجرار في السوق فلابد أن تبيعه بـ 50 دولارا فقط لأن هناك من يعرض في الأسواق جرارا أفضل منه بـ 60 دولارا، هذا إذا وجدت من يشتريه، هكذا يكون الانتاج والمزيد من الانتاج في مصانع القطاع العام فيه الضمانة الوحيدة لتراكم الخسائر في الوقت الذي تجد فيه نفسك مطالبا بتحسين الأحوال المعيشية للعاملين فيها واختراع مسميات جديدة لزيادة مرتباتهم تحت أسماء مختلفة مثل الحوافز والأرباح والمكافآت التشجيعية، وهو بالضبط ما قرأناه من قبل بتفاصيله في كتاب غورباتشوف الشهير، البريستورويكا.

أما الأمر المدهش حقا إلى حد الصدمة، فهو أن ذلك التقرير الشجاع الذى صدر عن مركز المعلومات ودعم القرار، لم تنشره اي جريدة، كما لم يناقشه أي برنامج تليفزيوني في المحطات الأرضية والفضائية. إنها ثقافة الاشتراكية التي تحتم على الناس الانشغال طول الوقت بمكافحة الامبريالية العالمية وترك مشاكلهم الحقيقية للزمن ليحلها لهم.

كيف تهزم الناس غيلان العصر بغير أن تكون لديها الجرأة على مواجهتها؟