أيهما أفشل جولة بوش.. أم مساعي عمرو موسى؟

TT

ومن البلية عذل من لا يرعوي

عن غيّه، وخطاب من لا يفهمُ

(المتنبي)

لامني أحد الأصدقاء على مقالتي الأخيرة في «الشرق الأوسط»، لأنها تشكك ولو بصورة غير مباشرة في جدوى المسعى العربي، الذي يضطلع به السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية في لبنان. والحقيقة أن التجربة المرة علمتني، وأحسب أنها علّمت غيري أيضاً، فضائل التحلي بشيء من الواقعية إزاء أزمات معقدة، كالأزمة اللبنانية، تتداخل فيها وتتقاطع المصالح والشعارات والمؤامرات. والوضع اللبناني المتفجر الذي تتصدى له «المبادرة العربية» المترنحة.. لا هو جديد على اللبنانيين ولا على العرب.

أكثر من هذا، لقد أشبع لبنان العرب أزماتٍ تسابق كل من الطرفين على توريط الطرف الآخر فيها، وفي المقابل أتخم العرب لبنان مبادرات ومساعي معظمها ناجم عن عجزهم الدائم وتقصيرهم الفاضح والمزمن في حق أنفسهم في المقام الأول.

من هذا المنطلق اتسم تناولي «المبادرة العربية» بالحذر الذي تستحقه.. فقد بلغتُ من السن والتجربة مرحلة غدا معها ضرباً من السذاجة تجاهلي الحقائق ونسيان الماضي.

في مطلق الأحوال، جاءت «المبادرة العربية» متزامنة مع جولة الرئيس الأميركي جورج بوش «الابن» في المنطقة، وكان من الطبيعي التعامل مع كلٍ من الحدثين بالأخذ في الحساب الحدث الآخر. ذلك أنه يستحيل تصّور وجود فصل بين الأزمة المحورية في المنطقة، أي القضية الفلسطينية، والمشاكل الإقليمية التي أفرزتها أو أسهمت في مفاقمتها طيلة أكثر من نصف قرن.

والشيء الأكيد أن أحداً لم يكن يتوقع أن تجترح جولة بوش المعجزات.

فالرئيس بوش يبرهن كل يوم أنه بات «بطة عرجاء»، وفق المصطلح السياسي الأميركي، عاجزة عن اعتماد سياسات راديكالية ملزمة للولايات المتحدة مع بدء العد التنازلي لفترة رئاسته الثانية والأخيرة وانطلاق حملات الانتخابات الرئاسية الآيلة لانتخاب خلفه. وفي موضوع «الصراع العربي ـ الإسرائيلي» (وبالذات في شقه الفلسطيني) عشنا السنوات السبع الأخيرة في رحلة شاقة مع دبلوماسية أميركية عنيدة ومضلَّلة (بفتح اللام) ترفض أن تفهم «العلاقة السببية» بين مناصرتها تل أبيب ظالمةً أو مظلومة (متى كانت مظلومة؟) وبين ارتفاع أسهم الاعتدال والديمقراطية والعقلانية في العالم العربي.

وكما نعرف ونتذكر، جاءت «الحرب على الإرهاب» لتجهض أي مقاربة عاقلة وموضوعية محتملة.. ليست فقط في صالح الفلسطينيين، بل لعلها أيضاً في صالح إسرائيل على المدى الطويل.

ثم إن إسرائيل تعيش اليوم في حالة انعدام وزن حقيقية بغياب «قيادة تاريخية» ذات صدقية قادرة على إقناع الشارع أو طمأنته. كما يبدو أن التفاوت في وجهات النظر التفصيلية إزاء المستقبل السياسي للشرق الأوسط بين واشنطن وتل أبيب ـ بصرف النظر عن تحيات إيهود أولمرت لضيفه ـ يفعل فعله اليوم إقليمياً.

فهذه المرة قد يدفع هذا التفاوت «ليكوديي» واشنطن، الذين أيدوا بوش معاكسين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2000 التوجهات المعهودة للناخب اليهودي المؤيد تقليدياً للحزب الديمقراطي.. إلى دعم الديمقراطيين في نوفمبر المقبل.

ثم ان إسرائيل، منذ البداية، لم تأخذ على محمل الجد طموح إدارة بوش المعلن لزرع الديمقراطية وتعميمها في الشرق الأوسط. وهي أصلاً لم تكن منزعجة إطلاقاً من نقص الديمقراطية وانتشار ديكتاتوريات التخلف في العالم العربي إلا بمقدار ما يمكن أن تشكله عليها من خطر عسكري أو امني. وبالتالي، طالما أن أذى هذه الديكتاتوريات ظل محصوراً في شعوبها وبإخوة شعوبها من العرب البائسة... فلا مشكلة لإسرائيل معها.

في المقابل، ماذا على المشهد العربي؟

المشهد في منطقة المشرق العربي بالذات قاتم جداً. فالمنطقة بين «فكّي كماشة» إسرائيلي ـ إيراني.. وقد يبدو هذا الوضع لكثيرين وضعاً متأزماً وخطيراً جداً، لكن تجارب الماضي تشير إلى إمكانية التعايش عبر الردع المتبادل. وما لم تحدث مفاجأة ضخمة ـ أضحت اليوم بعيدة الاحتمال بعد تقرير أجهزة الاستخبارات الأميركية حول القدرات النووية الإيرانية ـ فإن الحسم العسكري مع طهران مستبعد.

استبعاد هذا الحسم في المستقبل المنظور يوجّه بالضرورة عدة رسائل دفعة واحدة.. إلى العراق، وإلى دول الخليج، وإلى الدول المحيطة بإسرائيل، وإلى المناخ الديني والطائفي المحموم على امتداد المشرق العربي.

القراءة في الواقعين الفلسطيني واللبناني ـ بالأخص ـ لا تخرج عن هذه الصورة القاتمة. ففي كل من الأراضي الفلسطينية ولبنان، إصرار غريب على اعتماد سياسة «الإلغاء الانتحاري».

كذلك متابعة ما تحمله المرحلة المقبلة إلى العراق أيضاً مسألة حساسة، ولا سيما، بعد كلام الرئيس عن احتمال بقاء القوات الأميركية فيه لعشر سنوات مقبلة!

إننا اليوم في حالة أشبه ما تكون بطائرة ركاب يسيّرها «قبطان آلي» بعدما فقد أفراد طاقمها الأصلي السيطرة عليها.. نتيجة دسّ بعض الركاب مواد مخدرة في شرابهم. وعند وقوع الكارثة ـ لا قدر الله ـ لن يضمن هذا البعض النجاة.