سنوات ضاعت

TT

جلسة هادئة جمعتني مؤخرا مع مجموعة من الأصدقاء في إحدى ليالي الشتاء البارد، وكان من بين الحضور وجه جديد لم أره من قبل، وتم التعارف التقليدي، ثم علمت بأنه حصل للتو على شهادة الدكتوراه، ومن باب الفضول وددت معرفة موضوع الرسالة فقال: إنها عن «احتمال وفرضية عدم الممانعة في السلام ومشاركة أهل الكتاب مناسباتهم»، وفورا تذكرت المشهد المعروف في المسرحية الذائعة الصيت «مدرسة المشاغبين» بين الفنان عادل إمام في دور بهجت الأباصيري، وسهير البابلي في دور المعلمة المدرسية «عفت عبد الكريم»، وهو يسألها عن دراستها لعلم المنطق، فتجيبه: بأن «الواحد ممكن أن يقضي عمره كله في دراسة المنطق!».

وحقيقة أصبت بالدهشة والذهول في كيف من الممكن أن يقضي أحد، ويفني أربع سنوات من عمره في دراسة موضوع كهذا، موضوع محسوم تماما من الجانب الأخلاقي الذي بعث نبي ورسول الدين الإسلامي، ليتمم مكارم الأخلاق، وأشاد به رب العرش العظيم في كتابه الكريم بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم»، والجدال في مسألة كهذه هو فتح باب يعارض خلق السيرة نفسه.

في بداية كل سنة ميلادية يتزايد ويتوسع الحديث عن مسألة السلام وتهنئة أهل الكتاب، فيسمع المتابع العديد من الآراء والأقاويل، وهي في معظمها تستند إلى تفاسير «بشرية» بحتة لاجتهادات محدودة.

لا يمكن «الترويج» لفكرة التسامح ولا «تسويق» مبدأ الوسطية ولا «بيع» ثقافة الاعتدال إذا كانت مسألة مثل السلام والتهنئة فيها هذا القدر من التشنج والتشدد. وهذا كله نتاج واضح لقراءة منقوصة وخطيرة للموقف المطلوب أخذه وتبنيه والاعتقاد به مع «المخالف لنا»، وهي كلمة فيها موقف عدائي استباقي.

الآيات القرآنية وصور سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مليئة بالأدلة التي تأمر المسلم بالمعاملة بـ«الحسنى» و«الموعظة الحسنة» و«بالتي هي أحسن».. أوليس كل ذلك ينافي روح ونص الرأي القائل بعدم جواز التواصل والسلام مع أهل الكتاب، مهما قدمت المبررات والحجج والبراهين للإقناع والتدليل؟

من الواضح أن هذه المسألة، والرأي المتشدد فيها، غريبة، فالمسلمون الذين انتشروا في أصقاع الأرض للدعوة والتجارة وللعلم، لم يكن بمقدورهم المواصلة والنجاح، إذا كانوا يمارسون تلك الآراء الرافضة للتواصل بصورة عملية.

المواقف العدائية (وهي آراء شخصية من مجموعة ضيقة) ضد المخالفين في الدين، بها خلل أخلاقي يتوجب التعامل معه والوقوف عليه ومراجعته، فهو ينافي تماما مبادئ أخلاقية أساسية، هي في صميم بعثة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وهو المبعوث «هدى ورحمة للعالمين».

لا دعوة ولا تجارة ولا علم سيكتب لها القبول والنجاح والاستمرار في ظل وجود هذا الحجم من الفهم الخاطئ، بغض النظر عن عشرات رسائل الدكتوراه والماجستير التي تحاول أن تمنح فكرا خاطئا شرعية علمية.