عمرو موسى: آه يا خوفي من آخر المشوار!

TT

سلَّمت إدارة بوش، متأخرة، بوجهة نظر النظام العربي بأن استمرار الاحتلال الاسرائيلي هو الحافز القوي للعنف الديني في المنطقة والعالم، وانحياز الإدارة الفاضح لاسرائيل هو الذي يمكِّن إيران من اختراق عرب المشرق (سورية ولبنان وفلسطين) وتوجيههم ضد أميركا والنظام العربي.

في إطار هذه الرؤية، ما هي نتائج جولة بوش؟ لتسهيل الاستنتاج، يمكن حصر النتائج من خلال قراءة التطورات المنتظرة في دوائر ثلاث: لبنان. الخليج. مفاوضات عباس ـ أولمرت.

عمرو موسى عائد إلى لبنان. إذا واصل الاخفاق فهذا البلد العربي الصغير يواجه حالتين: إهماله وترك اللبنانيين وشأنهم كما يقول الرئيس مبارك. أو تدويل وتعريب مشترك لحل مفروض، كما تقول فرنسا وأميركا. بمعنى آخر مختصر، انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً بالأكثرية النيابية، مدعوما بشرعية عربية (مجلس الجامعة) وبشرعية دولية (مجلس الأمن). ثم اقناع سليمان بأن هاتين الشرعيتين ضامنتان لمشروعيته الرئاسية، حتى ولو لم ينتخبه نواب عون المسيحيون ونواب الشيعة.

لماذا أخفق عمرو موسى في لبنان إلى الآن؟ لأن هذا الديبلوماسي المخضرم هو ضحية قصور العقل السياسي المصري، منذ عبد الناصر، عن فهم تعقيدات وألغاز وفلسفات العقل العربي المشرقي. في القاهرة، قبلت «نَعْجَةُ» الديبلوماسية السورية (وليد المعلم) بالحل العربي. في بيروت، اصطدم عمرو بالتفاصيل السورية ـ الإيرانية! اقترح موسى انتخاب الرئيس المتفق عليه أولا. عندما اقترح العهدة إلى «الرئيس» سليمان بدور الحاكم بين «الأكثرية» و«المعارضة»، أحاله فوراً نبيه بري إلى حليفه حسن حزب الله. السيد حسن أحاله على حليفه العماد عون «فرانكشتين» لبنان المخيف الذي عقَّد الأزمات وعطل الحلول منذ 25 عاما. الحل المستحيل الذي يقترحه هو انتخاب سليمان رئيساً لسنتين ثم يستقيل، لعل الأحوال تتغير فينتخب (عون) رئيسا محله!

عمرو موسى كحال العاشق المصري في أغنية حليم: «ابتدا. ابتدا المشوار. آه يا خوفي من آخر المشوار!» إذا لم يعوِّم الرئيس بشار مهمة موسى العربية، باعطاء اشارة المرور «للرئيس» سليمان. لكن يبدو أن بشار قد يقبل بتغيب كبار الزعماء العرب عن قمة دمشق في مارس المقبل، ولا يقبل هو ونجاد وحسن حزب الله بالاستغناء عن عون الذي ترفض الأكثرية مفاوضته بسبب شروطه التعجيزية.

تأجيل موسى مطالب وشروط المعارضة إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، أدى إلى تعطيل مهمته. حزب الله الإيراني يريد ضمانات رئاسية وحكومية بعدم التعرض لسلاحه. بشار يريد حكومة لبنانية لا تمضي قُدُما في تشكيل المحكمة الدولية لمحاكمة ضباطه المخابراتيين الذين قد يواجهون اتهامات بالضلوع في قتل الحريري (2005).

كان القذافي أذكى. فقد ضحى بالمخابراتيين الصغار لانقاذ نظامه بعدما رأى ما حل بنظام صدام. قد يضحي بشار بمخابراتيين صغار. لكن ماذا يفعل إذا أدانت المحكمة كبار ضباط مؤسسته المخابراتية؟ القرار سيكون بمثابة حكم بالقطيعة عربيا ودوليا على النظام السوري، إذا لم يسلم المدانين إلى العدالة الدولية.

هل يضمن بوش حماية الحل العربي ـ الدولي الذي كان أول من اقترحه ديفد وولش موفده إلى لبنان. وهو بالمناسبة من غلاة المحافظين الجدد الباقين في الإدارة الأميركية؟ أم أن سورية وإيران ستعمدان إلى تفجير حالة اللاسلم واللاحرب اللبنانية الحالية؟

الجواب يأتي من تطور العلاقات الأميركية ـ الإيرانية في أعقاب زيارة بوش للخليج. اللوبي الإيراني القوي والنشيط في الجامعات والإعلام ومراكز البحوث الأميركية يدعو الإدارة إلى حوار تفاوضي مع إيران. ويقترح اعتراف الإدارة بمصالح إيران في المشرق العربي «التي لا يمكن تجاهلها» لا سيما بعد وصول عملاء إيران وأنصارها إلى الحكم في العراق. هذا يعني قبول أميركا بالاختراق الإيراني لسورية ولبنان والتنظيمات الدينية الفلسطينية، في مقابل تسهيل إيران الحل في لبنان، وتنصيب العماد رئيساً، وتشكيل حكومة ائتلافية تضم أنصار الغرب وإيران.

اقتراحات اللوبي الإيراني تلقى معارضة شديدة من اللوبي اليهودي ـ الاسرائيلي، لأنها تضع إيران (وربما مع قنبلتها النووية) على مقربة من اسرائيل في لبنان وغزة. الواقع ان سياسة بوش تجاه إيران شديدة التناقض والغموض. أكتب هذا الكلام قبل الخطاب الذي وجهه إلى الشعب الإيراني يوم الأحد الماضي.

هذا التناقض والغموض يثيران حفيظة دول الخليج العربية. العرب لا ينسون لبوش تسليمه العراق لأنصار إيران، وتغييبه الهوية العربية لهذا البلد الذي كان يشكل الجدار التاريخي الواقي من الاختراق الإيراني. مصداقية بوش الخليجية تأثرت سلبا. لا ثقة للخليج بإدارة بوش. لا قبول لنصائحه.

كل ما تريد دول الخليج من أميركا أن تشكل بقوتها المتوفرة في المنطقة رادعا لإيران، وهو أمر متوفر وقائم حاليا. لكن هذه الدول لا تريد حربا أميركية ـ إيرانية. سياسة الخليج تجاه إيران تفترق عن سياسة بوش. هي تقيم حوارا معها. تستقبل أحيانا رئيسها. غير ان «عرب» إيران في المشرق لم يدركوا بعد التحول في سياسة «المرشد» الإيراني. تظاهروا ضد بوش، يريدون «تمويت» أميركا! لكن إيران لا تسعى إلى مضايقة أميركا في الخليج. لا تهدد الغرب بالسيطرة على النفط الخليجي، كما حاول صدام الغبي ان يفعل مرارا وتكرارا.

اذا ألغت ايران فعلا برنامجها النووي، فلن تكون هناك ذريعة لضربها. ألمح خامنه ئي نفسه إلى إمكانية عودة العلاقات الديبلوماسية مع أميركا. هذا يعني أيضا ان ايران قد تضغط على سورية لتسهيل الحل في لبنان. الواقع هنا تبادل ثنائي للأدوار بين الرخي والشد. لكن الحل في لبنان لن يكون هدية عاجلة لبوش وهو في المنطقة. وهذا ما لم يدركه، مع الأسف عمرو موسى الذي أخطأ في توقيت وساطته المتجددة.

لا أدري ما إذا كان الجانب الخفي من زيارة بوش قد تناول قضايا لم يعلن عنها: سعر الدولار المنخفض واستمرار تسعير النفط به، واستثمار الفائض المالي الخليجي (ألفي مليار دولار). هناك هجمة من المصارف والمؤسسات الأميركية المالية المفلسة على الخليج لامتصاص الفائض والسيولة. إذا كانت لي ملاحظة، فمن باب الحيطة والحذر عدم التسرع في تعويم هذه المؤسسات والاستثمار فيها بعدما تحولت إلى كازينوهات للقمار والمراهنة. إذا كان ولا بد، فالأنسب اشتراط جلوس ممثلي المؤسسات الخليجية في مجالس إدارة هذه المؤسسات للرقابة وللاستفادة من الخبرة المالية المعقدة.

أكاد أنسى الزاوية الثالثة في زيارة بوش، الزاوية الفلسطينية. قضى بوش في امتداح أولمرت وزيارة متحف ضحايا النازية اليهود (ياد فاشيم) و«القبة» اليهودية على رأسه، أكثر مما قضى في صلاته المسيحية في بيت لحم. بكى بوش في ياد فاشيم لم تترقرق عيناه بدمعة وهو يرى مهد المسيح محاصرا بالمستوطنات وجدران الأسمنت.

بوش وعد بالضغط «الخفيف» على اسرائيل. لكن لم يعد بالحسم في قضايا الاستيطان. يبقى وعده بالتوصل إلى حل تفاوضي بشأن انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية، كوعد جحا بتعليم حمار السلطان الكلام: إما ان يستقيل السلطان (أولمرت)، أو يموت حمار المفاوضات، وإما أن تُطوى الوعود بانتهاء ولاية بوش.