فيروز.. لنا أم لهم؟

TT

سفيرة لبنان إلى النجوم ستغني في دمشق. هذا الخبر أثار الكثيرين، وكلهم يحب فيروز، وينتمي للطائفة الفيروزية، وأنا أول المنتمين.

أثار معسكر «المال النظيف» و«النصر الإلهي» وخندق المقاومة، باعتباره انحيازا لهم، وهو انحياز بارتفاع النجوم إلى الجانب الحق، وأثار الخبر أهل النور والحرية والاستقلال ورافضي التبعية للمشروع الأصولي بعصا البعث ـ أنا هنا أردد شعارات الفريقين ـ باعتبار أن فيروز، المستعلية على الجميع، لا يجوز ان تفيض بركتها، وتطلق عصافيرها المزركشة في غرف السجانين، ولا يجوز لها أن تهتف بـ«صح النوم» في عرين السجان الدمشقي، كما تمنى عليها «مريدها» النائب «الرابع عشر آذاري»، أكرم شهيب، الذي وجه لها رسالة عتاب ورجاء بأن ترفض الغناء في أحضان الأسد، فاليمام الأبيض لا يطرب الأسود، ولا يصادقها.

فيروز، في هذا الحالة، هل هي فنانة محايدة، أم هي شيء أعظم وأكبر من أن تكون مجرد مغنية، بما تمثله في الذاكرة والوجدان، وبما ترسله عبر أغانيها ومسرحياتها من مشاعر، يفترض بها ان تكون محصنة عن التلويث؟

السيدة نهاد حداد، أو فيروز، تلك المرأة اللبنانية التي تعمدت في وجدان العرب، خصوصا سكان بلاد الشام كلها، بوصفها سقف النقاء وجنة المشاعر الرفيعة، فهي رفيقة الصبح، وصديقة البساتين، ولا يجوز لها أن تغني إلا في مناطق الإجماع ، ويحسن أن لا تغني السياسة أصلا، إلا على طراز «القدس العتيقة» أو «غنيت مكة»، أو «بحبك يا لبنان»، مع أن الأغنية الأخيرة تنازعها جمهور الفريقين في لبنان، كما تنازعوا العلم اللبناني ، أي أنهم تنازعوا هوية الوطن الجامعة.

هل صحيح أن الفنان «الاستثناء» كفيروز، أو أم كلثوم أو عبد الحليم، يجب أن يكون للجميع؟ هذا متعذر طبعا، لأنه لا يوجد «جميع» في السياسة ولا في الدين ولا في الانتماء الاجتماعي، إذن فأين يكون هؤلاء القمم، كما هم في عيون الجمهور، مواطن إجماع، ما دام أنهم بالفعل صاروا أيقونات عربية جامعة؟ سؤال صعب، ولكن يبدو أن عنصر تجميعهم للناس «الجميع» يكمن في المنطقة الإنسانية (الفوق سياسية) أعني في مشاعر الحب والهجر والصد، وفي مناطق التأملات الإنسانية المنقاة من لوثات العابر والمؤقت، بهذا القيد تكون فيروز التي غنت الحب وغنت الذكريات مع رفيق الطفولة «شادي»، وهجت القتل الأهلي في لبنان، وودعت «النبي» في «أورفيليس» وتأوهت على عناقيد العنب مع «عاقد الحاجبين»، وانتظرت الأمل على «جسر اللوزية»، هي الأسلم من تهمة الفن الذي يفرق، وتقاربها أم كلثوم، التي تغنت على «الأطلال»، وبعثت الخيام، ذلك الفيلسوف اللذائذي العظيم، في رباعياته، ووصلت بأغنية الحب إلى ذرى عالية في «أنت عمري»، و«سيرة الحب»، ولكنها لم تسلم من الأغنية السياسية، من العهد الملكي الى عهد العسكر، ربما إجبارا، كما يعتذر مريدوها، وربما انتهازا منها للمرحلة، كما يعتقد الواقعيون.

العلاقة بين الفن والسياسة، هي قدر لا مناص منه، فالفنان هو في نظر السياسي «أداة» مهمة، وفعالة، أكثر نجاعة من مئات الإذاعيين وعشرات الصحف، ناهيك من آلاف «المتفرغين» للمدائح.

هذه العلاقة بين الفن والسياسة علاقة معقدة وهي معركة نرجسيات قاتلة، بين «أنا» الحاكم المتجبرة المجتاحة والعنيفة، وبين «أنا» الفنان المتعالية المغرورة. لذلك فالحاذقون من الحكام والساسة «يراعون خاطر» الفنانين، ولا يجرحون نرجسيتهم، فتجد عبد الناصر وعامر يجلسون بإصغاء وإنصات، مثلهم مثل غيرهم من حضور الحفلة، للسيدة أم كلثوم وهي تشدو بهدوء وبتقطير غناءها.

لكن هناك دوما استخداما من السياسي للفن والفنانين، أحيانا يكون فاشلا بسبب الطابع الفج للاستخدام، وبسبب تواضع صورة الفنان المقصود في ذهن الجمهور والمتلقي، وهذا يحصل دوما في المناسبات الرسمية العادية، لأن الجمهور هنا ينظر للفنان بوصفه مؤديا في الفرقة الموسيقية العسكرية، ويفقد تلك الصلة الشفيفة بالفنان البعيد عن أجواء السياسة والمصالح.

فيروز احتار فيها الحائرون، إلى أي لون سياسي تنتمي؟ فمن قائل إن هواها يساري، بسبب ابنها زياد، ومن قائل إنها تهوى الحزب القومي السوري؟

غير أن السيدة فيروز بقيت صامتة، تغني فقط، مرة للحب ومرة للبنان ومرة للشام ومرة لمكة، تارة تتلو التراتيل الدينية، وتارة تشدو بكلام جبران، ذلك الكاتب والفنان القابع في ما بين الشعر والوحي والفن.

إن علاقة فيروز بالشام ليست حديثة ولا جديدة، فقد خصصت لها إذاعة دمشق كل يوم احد لتغني هي وعاصي ومنصور الرحباني وذلك سنة منذ 1953.

وفي عام 1956 غنت فيروز في دمشق، وكان مما غنته موشح «جادك الغيث».

ومن حفلاتها المهمة حفلة 1961 التي قدمت فيها «سائليني يا شآم» من شعر سعيد عقل، رمز الفينقية اللبنانية.

واستمرت الحفلات كثيرا بعد ذلك.

إذن فالعلاقة أعقد من أن تحشر في قمقم الصراع الحالي بين فريقي الموالاة والمعارضة في لبنان. صحيح أن النظام الحالي الحاكم في دمشق قمعي، ولكن حينما كانت تغني فيروز «سائليني يا شآم» كانت سوريا ليست تحت حكم ديمقراطي، فهي قد خرجت من الجمهورية العربية المتحدة «الناصرية» سنة 1961، وعاشت فترة غموض، حتى انقض البعث على الحكم 1963.

الفنانون لهم وسائلهم في بعث التحايا وإرسال الرسائل للجمهور، وهو، اي الفنان، يهمه أن لا يخسر جمهوره، الذي هو في النهاية جمهور فن وليس جمهور سياسة، والجمهور السوري بالنسبة لفيروز هو من أوفى وأقدم الجماهير الفيروزية.

نجد نماذج أخرى لفنانين آخرين في هذا السياق البعيد عن فرز السياسة، فقد غنت ميادة الحناوي ـ السورية ـ لبيروت.

العلاقة بين بيروت ودمشق أكثر من السياسة، ومن ذلك أنه قد عاش فيها سوريون كثر، لعل أبرزهم نزار قباني الذي كتب أغنية «بيروت يا ست الدنيا» لماجدة الرومي.

من الصعب القول بتمايز العلاقة بين الفن والسياسة، ومن العسير الجزم بتحدد مجال الفنان ومجال السياسي، باستمرار كان الفن إما مستخدما من قبل السياسي أو ثائرا عليه، وفي الحالتين كانت هناك علاقة بالسياسة، ومن يقرأ ما كتبه ادوارد سعيد عن الراقصة تحية كاريوكا، يدرك إلى أي مدى يمكن للفنان أن يكون معبرا بفنه عن انحيازه وهواه السياسي، فتلك الراقصة الفاتنة عبرت بفنها وجسدها، وبطريقتها الخاصة، عن حركة اليسار المصري والتحرر الوطني ضد الاستعمار، وضد الحكم.

ميزة الفنان حينما يسخر فنه للسياسة هو انه ارفع صوتا من غيره، وأكثر تأثيرا، والفنانون، كغيرهم، فيهم المسيسون، وفيهم من هو «على باب الله»، او كما قال المخرج المصري يوسف شاهين، عن محمود المليجي انه أعظم فنان مصري، ولكنه في السياسة والثقافة «غلبان»، حسبما ينقل عنه حسين احمد أمين في كتابه الممتع «شخصيات عرفتها».

الآن يبدو أن اغلب الفنانين والفنانات من هذه النوعية الغلبانة، ولا اعتراض على ذلك، فنحن نريد منهم فنا لا خطبا سياسية، وعلى العكس فإن بعضهم إذا «فكر» يأتي بالطامة، مثل طامة رقاصة «الواوا» التي قالت إن قلبها يرتعش اذا رأت سيد «المقاومة» على الشاشة...

في تاريخ الفنانين العرب، صفحات سياسية كثيرة، قليل منها كشف، وأكثرها محجوب، خصوصا أنهم يلجون البيوت وقصور الرئاسة بأعظم شفيع: الطرب والفن، ولعل يوما يأتي يكشف فيه الستار عن تلك الصفحات... والى ذلك الحين، فلا تقسوا أيها السادة على فيروز، فهي ليست معكم ولا معهم، إنها معنا نحن الطائفة الفيروزية.

[email protected]