بوش و«الجبنة» الفلسطينية

TT

رغم أن الوضع الفلسطيني يبعث على التراجيديا وفي مقاطعة تامة مع التعاطي الكوميدي، فإن جورج بوش وهو يمازح الصحافيين، مشبها التشتت الجغرافي للدولة الفلسطينية بالجبنة الفرنسية المقطعة الى أجزاء، كان يؤكد المقولة التي ترى أن في الهزل كثيرا من الجد.

ولأنه آثر توكيل إسرائيل كي تضمن حدودا واضحة للدولة الفلسطينية، فإنه يمكن التوقع مسبقا أن حال الدولة الفلسطينية، سيظل كحال الجبنة الفرنسية.. والى أجل غير مسمى ويصعب أن يسمى.

طبعا حاول بوش إظهار شيء من الحياد، إزاء الجانب الإسرائيلي، ولكن المتأمل في المعجم اللفظي، الذي استعمله في المؤتمرات الصحفية، أثناء زيارته للمنطقة، يلحظ أنه معجم فضفاض ولا يشعل النار سوى على «حماس» التي هاجمها وقال إنها لم تجلب سوى الشقاء للشعب الفلسطيني. في حين أن كلامه الآخر لم يخرج عن دائرة التوقعات والمطالبة وعلى رأس ذلك، توقع توقيع اتفاق في غضون عام بإنشاء دولة فلسطينية.

وفي خضم اللجوء الى معجم لفظي سياسي إنشائي وممطط في تأويلاته وافتقاره الى الدقة والحسم، فيما يخص الجانب الإسرائيلي، فإنه مرر موقفا يبدو للوهلة الأولى منطقيا ومعقولا ولكن فحواه، يكرر مطالب قديمة هي خلافية بالأساس وتمثل بيت القصيد في عرقلة المفاوضات الفلسطينية العربية الإسرائيلية، وبالتالي في وصول الصراع الى الزنقة الراهنة، ونقصد بذلك مطالبة بوش الدول العربية، أن تمد يدها الى إسرائيل، وأن تبرهن على سعيها الحقيقي للسلام.

وكما هو واضح تستبطن دعوة بوش هذه بالمعنى السياسي دعوة للتطبيع، الذي يشكل نقطة الخلاف تاريخيا، حيث يشترط العرب السلام مقدمة أساسية للتطبيع، في حين تصر إسرائيل على اعتبار تطبيع العرب معها، الدليل المادي والملموس لقبول العرب بها.

لذلك فإن توجيه هذه الدعوة وما يشابهها، لا يمثل خطوة الى الأمام، بقدر ما هو خطوات الى الوراء. ولتجاوز هذه المسألة كان من الأجدى تحديد والانطلاق في تجسيد إجراءات بناء ثقة، تكون عملية ومفحمة للطرف العربي تحديدا، الذي وراءه شعوب وأطياف سياسية وفكرية ونخب مختلفة لها حساسيتها ومحاذيرها في مسألة الصراع العربي الاسرائيلي.

فماذا لو توضح اسرائيل نظرتها للسلام ومدى حقيقة استعدادها لما يسمى بـ«التنازل» وتعلن صراحة وسلوكا، قبولها غير المتردد والمماطل للرجوع الى حدود 1967.

إن إسرائيل التي تريد أمنها وطرد الكابوس العربي عنها، لا تقدم شيئا عمليا سوى ما هو ضد ما تريده. بل الأنكى من كل هذا مفهومها للمفاوضات ورؤيتها للسلام، تتمثل في أن تأخذ، وأن لا تعطي في المقابل شيئا يذكر.

لذلك فإن العرب عندما يشعرون بجدية إسرائيل، فإنهم سيتخذون الإجراءات التطبيقية، وسيعرفون آنذاك كيف يقنعون شعوبهم بموقفهم الايجابي من إسرائيل، وأن يطلبوا منها طي صفحات المريرة والحمراء دما.

فما يتجاهله الإسرائيليون وفريق البيت الأبيض، هو أن القضية الفلسطينية مرتبطة في الوعي الشعبي العربي والإسلامي بمفاهيم الخيانة والعار والخذلان، الشيء الذي جعل عدة أنظمة عربية، تستمر فقط لتبنيها موقفا رافضا للتطبيع.

من جهة أخرى وفي مقابل انعدام أية إجراءات بناء ثقة من الطرف الاسرائيلي، نلحظ أن الجانب العربي أثبت تاريخيا، سعيه للسلام من خلال خطوات عملية أدت الى انقسامات شعبية وسياسية حولها. بمعنى أن الرصيد العربي في مسألة البرهنة على استعداده للسلام رصيد سمين، بدأ مع مبادرة أنور السادات للسلام التي دفع مقابلها حياته، من دون أن ننسى اتفاق أوسلو واتفاقيات سلام، وقعت بين اسرائيل والأردن وتبادل ديبلوماسي بين إسرائيل وموريتانيا ومؤتمر مدريد للسلام، بالإضافة الى علاقات ديبلوماسية سرية تجريها بعض الدول العربية مع إسرائيل، وذلك في الغالب من أجل كسب ود واشنطن. ثم والأهم من كل هذا، نجد أن قبول العرب بالقرار 242 ، يعني ضمنيا اعترافا بإسرائيل.

لقد أحبطت إسرائيل الى الساعة حتى الجناح المعتدل العربي والذي انكب بروح واقعية على حل القضية الفلسطينية. لذلك فكل الاهتمام يجب أن ينصب خلال المفاوضات المتوقعة على قبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية وبالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والجغرافية. لأنه بكل بساطة الطريق الوحيدة لبناء الثقة في أدنى سقف ممكن لها، بالإضافة الى أن الإجراءات المشار إليها هي أقل المقادير اللازمة لطبخ سلام صالح للهضم.

[email protected]