بوش في عيون إسرائيلية

TT

برغم أن الرئيس بوش أعطى اسرائيل كل ما تريد في جولته الراهنة، التي استهلها في لحظة هبوطه في مطار بن غوريون بالدعوة إلى إقامة الدولة اليهودية، ضارباً عرض الحائط بكل التحفظات الفلسطينية على تلك الفكرة البائسة، إلا أن الاستخفاف به كان واضحاً في بعض التعليقات الاسرائيلية. وهذا الاستخفاف ليس مقصوراً على الكتاب والمعلقين وحدهم، ولكنه قائم أيضاً بين بعض السياسيين في الداخل. وهو ما دفع شخصاً مثل وزير الحرب الاسرائيلي أيهود باراك إلى وصفه في جلسة لمركز أبحاث الأمن القومي الاسرائيلي، نقلها التلفزيون في 20/11/2007، بأنه رجل أخرق غير ذي صلة، ولا يعرف عم يتكلم. ودموعه التي ذرفها وهو يضع إكليل الزهور على النصب التذكاري لضحايا المحرقة النازية، ورفضه زيارة ضريح الرئيس السابق ياسر عرفات، كانت تعبيراً عن موقف رجل شحنه المحافظون الجدد بالقدر الذي عبأه تماماً، وأوصله إلى مرحلة «الذوبان» في عشق اسرائيل. وهو الذوبان الذي تجلى فيما لا حصر له من الشواهد والقرائن، وجعله يتصرف في إسرائيل باعتباره واحداً من أهل البيت، حتى إنه حين التقى مجلس الوزراء هناك أوصاهم خيراً بأيهود أولمرت الذي سانده طيلة الوقت، وهو المهدد بالسقوط في أي لحظة سواء بسبب هشاشة موقفه الائتلافي أو بسبب النتائج المترتبة على تقرير فينوغراد الذي يحقق في ملابسات الهزيمة التي لقيها الجيش الاسرائيلي أمام حزب الله في لبنان. وبعد ذلك عقد اجتماعاً منفرداً مع أولمرت ليس من العسير على أي متابع أن يستنتج أنه يمثل حلقة في مسلسل التوافق والتطمينات التي تعزز الموقف الاسرائيلي. ذلك كله لم يشفع للرئيس بوش ولم يمنع بعض المعلقين الاسرائيليين من انتقاده والسخرية منه وفضح تحيزه الأعمى لسياسة حكومة تل أبيب وقد تلقيت جانباً من تلك التعليقات من زميلنا الصحفي الفلسطيني صالح التهامي وبينها مقالة نشرت في 6/1 قبل ثلاثة أيام من وصول الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل، كتبها جدعون ليفي في صحيفة «ها آرتس» وقال فيها «إن بوش هو المسؤول عن تشجيع اسرائيل على مواصلة الاستيطان والحرب والقمع ضد الفلسطينيين. ولم يعرف البيت الأبيض زعيماً منح اسرائيل إذناً مفتوحا لشن العدوان وسحق الفلسطينيين مثلما فعل بوش، الذي شجع القادة الاسرائيليين على عمليات العنف وتكريس واقع الاحتلال وهو ما لا يعكس في حقيقة الأمر صداقة لإسرائيل. ولا يدل على الحرص على مصالحها، لأنه أضفى شرعية على كل فعل آثم ارتكبته».

وشدد ليفي على مساهمة بوش في ترسيخ الاحتلال وجعله أكثر قسوة، معتبراً أنه هو الذي منح إسرائيل الضوء الأخضر لكي تشن الحرب الأخيرة على لبنان، مؤكدا أن الولايات المتحدة تحت قيادة بوش هي التي تقود الحصار المفروض على حكومة حماس وهو الحصار الذي هدف الى تجويع أهل غزة. وأضاف: «لقد قاد الولايات المتحدة والعالم الغربي إلى حربين وحشيتين وعديمتي الفائدة، أولا في أفغانستان وبعد ذلك في العراق. لقد زرع بوش القتل الجماعي في هاتين الدولتين البائستين بادعاء باطل أن ذلك من أجل محاربة الارهاب العالمي. لكن العالم بعد هذين الحربين لم يعد أفضل مما كان قبلها. وفي هاتين الدولتين الجريحتين لا يدينون بالمعروف للدولة العظمى التي زعمت أنها جاءت لتخليصهما من نظامي الرعب اللذين كانا مسيطرين عليهما».

في اليوم التالي مباشرة (7/1) نشرت صحيفة «معاريف» ثاني أوسع الصحف الاسرائيلية انتشاراً مقالة لمعلقها السياسي بن كاسبيت قال فيها ان بوش لم ينجح فقط في التسبب بإلحاق الضرر ببلاده، ولكنه ألحق ضرراً مماثلا بإسرائيل والشرق الأوسط بأسره مضيفاً انه «يعرض العالم الحر للخطر، وبوجود مثل هذا الرئيس فإن المرء لا يسعه إلا أن يشتاق لأزمنة كل من ستالين وخروشوف في سنوات الحرب الباردة»، أضاف كاسبيت ساخراً: «لم يبق أمام العالم الحر إلا ان يحسب الوقت المتبقي لإنهاء آخر سنة من ولايته، لأنها بكل تأكيد ستكون سنة طويلة ومؤلمة، وبإنهائها، فإن الكثيرين سيتعلقون بأمل أن ينجح خليفته في إصلاح بعض الضرر الذي تسبب فيه».

وينوه كاسبيت الى أن الضرر الذي نجح بوش بالتسبب به للشرق الأوسط، لا يقارن بضرر. وقال «بوش هو المسؤول المباشر عن الفوضى في العراق، وعن صعود حماس الى الحكم في السلطة الفلسطينية». وحذر كاسبيت من أن بوش لو تمكن فسيعمل على إسقاط النظام السوري، لكي يضعضع الاستقرار في المنطقة. وختم مقاله قائلا: «ما هو خطير حقاً انه حتى الآن لم ينجح في أن يفهم حجم الغباء الكامن في خطواته. وليس هناك من يقول له انه رغم سيارة الليموزين و«اير فورس 1»، والأجهزة السرية ومظاهر العظمة وال سي.اي. ايه وال اف.بي اي. وكل باقي المظاهر التي تحيط بالرئيس الأمريكي، رغم كل هذا فإنه في واقع الأمر يتجول عارياً تماماً».

أما يوسي ساريد رئيس حركة «ميريتس»، ووزير التعليم الاسرائيلي الأسبق فقد سخر في مقال نشرته صحيفة «معاريف» من بوش معتبراً أن زعامته للعالم «زعامة خاوية». وقال «في كل مرة أسمع فيها مصطلح «الأسرة الدولية» وعن الأمم المتحدة ومجلس أمنها، استبدل ببكائي ضحكا مريرا فليست هناك أسرة من دون ولا مجلس أمن من دون طرف يحدد القرار فيه والطرف الذي كان من المفترض به أن يلعب هذا الدور القيادي، أي الولايات المتحدة، هو قيادة خاوية غير حقيقية».

وأضاف ساريد: «لقد سقطت على العالم وعلى كل من فيه مصيبة فادحة عندما انتخب جورج بوش رئيساً للولايات المتحدة. العالم كبير كما نعرف، وهو كبير فعلا على جورج بوش، فليس هو الشخص الذي يمكنه أن يخفف آلامه وأوجاعه. هذا شخص منذ أن «ولد من جديد» وفتحت عيناه كأي طفل رضيع وهو يرى العالم بصورة سطحية. وفقاً لتقاليد المسيحي الأصولي الممزوجة بتقاليد الكاوبوي القادم من تكساس، على حد تعبيره.

ووجه ساريد حديثه لدوائر صنع القرار في اسرائيل قائلا «في اسرائيل فقط ما زالوا ينفعلون ويعجبون بالرئيس بوش وبطانته الكونداليسية. وربما يوجد لديهم استعداد هناك في واشنطن لإنقاذ اسرائيل من أيدي أعدائها، وليس لديهم استعداد لإنقاذها من أيدي صديقتها الكبرى ومن نفسها». وأعرب ساريد عن شوقه للأيام التي كان فيها العالم منقسماً الى معسكرين، معتبراً ان اسرائيل سقطت ضحية لسيطرة القطب الواحد.

لن تفتك ملاحظة أن هذه الكتابات تنطلق من داخل اسرائيل، وأن اصحابها يتحرون في نهاية المطاف مصلحة البلد الذي ينتمون اليه، ويعتبرونه جزءاً من العالم الحر. وحين يعبرون عن الأسف لانتهاء عالم القطبين فإنهم يفتقدون المرحلة التي كانت اسرائيل فيها تحتل مكانة متقدمة في الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة والعالم الغربي. وهم لذلك يعتبرون اسرائيل «ضحية» التحول الذي حدث.

إذا نحينا جانبا الملاحظات التي لن تغيب عن إدراك القارئ الواعي، فإننا نستطيع أن نلحظ مدى الارتياح والاطمئنان في اللغة التي يخاطب بها الرئيس بوش من جانب السياسيين والمعلقين الكبار في اسرائيل، الذين يدركون جميعاً أن اسرائيل الآن في أفضل أوضاعها من الناحية الاستراتيجية، رغم الانشقاقات والتصدع الذي يعاني منه المجتمع هناك، سواء جراء الخلل الذي يعتري موازين القوى السياسية، أو الأصداء المكتومة التي ما زالت تتفاعل منذ هزيمة الجيش الاسرائيلي في حربه على لبنان، والتي عبرت عن نفسها مؤخراً بالتظاهرة التي باتت تطالب باراك بالاستقالة من الحكومة التي يرأسها أولمرت.

وما كان لذلك الاسترخاء الاسرائيلي أن يتحقق إلا في ظل التشرذم البائس المخيم على الساحة الفلسطينية والوهن الذي أصاب الأمة العربية ـ اننا بضعفنا نمنحهم شهادات الاستعلاء والاستقواء.