ما بعد زيارة جورج بوش؟!

TT

أمام العالم العربي اختيار مهم بعد زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للمنطقة: إما أن يشمر عن ساعديه من أجل العمل على حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي طال أمده واستنزف طاقات المنطقة كلها لآماد طويلة، مستغلا في ذلك ظروفا جديدة تجعل الحل ممكنا، أو يترك الموضوع كله لمرحلة زمنية أخرى معتمدا في ذلك على أن الزمن مهما طال سوف يعمل لصالح العرب ويجعلهم يحصلون على حقوقهم المشروعة من خلال أشكال مختلفة من النضال والكفاح المسلح.

مثل هذا الاختيار كان موجودا طوال الوقت، وكان موضوع الصراع السياسي بين وداخل دول المنطقة على تعدد أنظمتها السياسية والاجتماعية، وفي كل الأوقات شغل النخبة وصرف أنظارها عن مهام وتحديات أخرى. وبنفس الدرجة من الأهمية أصبح هذا الاختيار مطروحا بعد مجموعة التطورات التي حدثت بعد خطاب الرئيس جورج بوش في 16 يوليو الماضي والذي بدأ ما بات معروفا بعملية أنابوليس. هذه العملية، مثل عملية مدريد وأوسلو وكامب ديفيد قبلها كانت مركبة من تحركات دبلوماسية وسياسية متعددة، بعضها على النطاق الإقليمي، وبعضها الآخر على المستوى الدولي، وبعضها الثالث داخل الساحة الفلسطينية، وساحات داخلية عربية أخرى. فرغم ما يبدو من أن العملية الجديدة، مثل العمليات القديمة، كان للولايات المتحدة نصيب ودور كبير، فإن التجربة التاريخية تثبت أن دور وإرادة العالم العربي كان أساسيين إما بنجاح العملية أو بفشلها أو سقوطها في المنتصف، مُرتبين أوضاعا قلقة وصعبة.

وقد يبدو للبعض أن الاختيار العربي قد وقع بالفعل، فالدول العربية حضرت بالفعل مؤتمر أنابوليس، وكانت الجامعة العربية وأمينها العام في قلب الحدث، وحتى سوريا حضرت بعد ظنون كثيرة. وبعد الحضور في المدينة التاريخية الأمريكية حضر العرب أيضا إلى باريس، وفي النهاية كانوا في استقبال جورج بوش تجاوبا مع مبادرته الأخيرة، وزيارته التي جاءت متأخرة، ولكنها كانت أفضل من ألا يأتي على الإطلاق. ولكن المشكلة مع هذا الاختيار أنه يأتي من مؤسسات رسمية عربية تجاه الولايات المتحدة والعالم الغربي في العموم بينما تبدو الشعوب العربية وقد سارت في اتجاه الاختيار الآخر. وفي دول العالم المختلفة فإن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية بوسائل أخرى، ومن ثم فإن المفارقة بين الاختيار العالمي، والاختيار المحلي، سوف تحسب دوما لصالح الثاني لأنه الأكثر أصالة وأهمية في حسم الصراعات والمنازعات الدولية.

وفي الحقيقة فإن كل خيار من الخيارين كانت له مبرراته وجدارته الاستراتيجية، وكان بوسع أنصارهما أن يغرفا من التاريخ الأمثلة والأحداث التي تكفي للبرهنة على وجهة النظر. وربما كان لأصحاب الاختيار الثاني ميزة أساسية هو أن البحث عن التسوية في الاختيار الأول يحدث في زمن الصراع والحرب، ومن ثم كان بالقدرة الاغتراف من الحاضر أيضا للتدليل على فشل خيار السلام. ولم تكن إسرائيل قط بخيلة في عدوانيتها، وامتدادها الاستيطاني، ومطالبها الأمنية المبالغ فيها حتى بعد امتلاكها للقنابل النووية، ودلالها المفرط مع الولايات المتحدة ومن بعدها المجتمع الدولي كله. ودوما كان معنى ذلك كله أن الآخذين بالخيار الأول كان عليهم السير على طريق ممتلئ بالأشواك حتى ولو كانوا وحدهم هم القادرين على استرداد الأراضي العربية المحتلة. وبشكل ما كانت الكراهية لإسرائيل وأفعالها، والولايات المتحدة وسياستها، أكثر عمقا من حب فلسطين والفلسطينيين، وفي أوقات لاحقة من حب للعراق والعراقيين. وبشكل ما أصبح الصراع مجالا للانتقام وإيلام الخصم الإسرائيلي أكثر منه وسيلة لاسترداد حقوق مشروعة؛ ومع هذا المنطق انفصمت العلاقة بين السياسة واستخدامات القوة المسلحة.

ومع كل ذلك يظل الخيار ملحا، والبداية فيه هي الحوار الداخلي داخل الدول العربية وفي العالم العربي كله وبأكبر قدر من الصراحة والنظر للمستقبل بعيون مفتوحة. وعلى عكس ما يقال من أن العرب يدخلون المفاوضات بينما توازن القوى ليس في صالحهم، ومن ثم وجب الانتظار حتى تحين لحظة يتغير فيها توازن القوى، فإن القضية الأساسية لم تكن قط اختلال توازن القوى بقدر ما كان استخدام توازن القوى المتاح بالمهارة والحرفية اللازمة. وفي الحقيقة فإن اتخاذ المقاطعة الدبلوماسية والسياسية استراتيجية للتعامل مع إسرائيل كانت في جوهرها تنازلا عن استخدام هذا التوازن، وانسحابا غير مبرر من ساحة مواجهة حقيقية.

ولكن، من دون الدخول في تفاصيل وجهة النظر هذه فإن هناك عددا من المتغيرات الجديدة على ساحة التوازن هذه يمكنها أن تعطي العالم العربي فرصا جديدة لم تكن متاحة من قبل. وعندما وصل سعر برميل البترول إلى مائة دولار كانت إسرائيل هي أول من عبر عن خشيته من تغير جوهري في موازين القوى في المنطقة. ومن الجائز تماما القول ان زيارة جورج بوش ـ بالإضافة إلى عوامل أخرى ـ بعد سنوات من التمنع والرفض، كانت استجابة لهذا التغير. وهذه المرة فإن الارتفاع في أسعار النفط لم يكن قائما وحده، أو مترجما إلى أرقام فلكية من الأموال لا يعرف العرب كيف ينفقونها؛ وإنما تأتي أسعار النفط في وقت بدأ فيه العرب يعرفون الإصلاح الاقتصادي. ورغم عقبات ومثالب كثيرة فإن هناك الكثير مما يبشر في مصر والأردن وتونس ودول الخليج العربية كلها ليس فقط في ما يتعلق بالنمو المرتبط بأسعار النفط، وإنما النمو المرتبط بأشكال متقدمة من التنظيم الاقتصادي والإداري.

ويرتبط بهذا التغير على الجانب العربي تغير آخر على الساحة الاستراتيجية العالمية حيث تبدو الدول الغربية في لحظة مراجعة لكل السياسات التي لحقت بما جرى في الحادي عشر من سبتمبر والتي كادت أن تحول المواجهة مع الإرهابيين إلى مواجهة مع العالم الإسلامي كله. هذه اللحظة من لحظات المراجعة تعطي الجانب العربي فرصة إضافية لأن حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي أصبح واحدا من أهم بنود الحركة في المرحلة المقبلة سواء خلال إدارة جورج بوش أو الإدارة التي سوف تلحقه.

ومن المؤكد أن هناك تفاصيل أكثر لما يجري في هذه المرحلة، ولكن الحسب هنا هو التأكيد على أن الخيار الأول ليس تعبيرا عن ضعف بقدر ما هو تعبير عن فرصة متاحة نبعت من تغيرات جارية لمن يجرؤ ولديه الشجاعة والرؤية للمستقبل. وبالطبع فإن أنصار الاختيار الثاني سوف يتساءلون عن مدى مصداقية هذه التغيرات، ولكنهم سوف يقفزون فورا إلى استخدامها مدعين أن التغير في موازين القوى يعني وجوب الانتظار لفترة أطول حتى تنقلب الأحوال العالمية. ولكن توازن القوى أكثر تعقيدا من ذلك وترجمته إلى خطوات سياسية لا تقل تعقيدا، ودراسة هذا وذاك هو ما يحتاج الدراسة ويطلب الاختيار. ولكن أسوأ الاختيارات الممكنة سوف يكون بقاء الأحوال علي ما هي عليه، فتكسب إسرائيل استمرار احتلالها وهيمنتها، ويكسب الراديكاليون والإرهابيون ساحة لابتزاز الدول العربية وحتى دول العالم الأخرى، وتخسر الدول العربية فرصة تاريخية للاستفادة من أموال طائلة يمكنها أن تأخذ العرب إلى القرن الحادي والعشرين. وأسوأ الاختيارات أيضا أن تبقى المفارقة على حالها بين حركة عالمية لها اتجاه مع المستقبل، وحركة داخلية واقعة في أسر الماضى، فساعتها ربما لن تكون النتيجة الذهاب إلى الماضي أو الوصول إلى المستقبل، وإنما إلى الذهاب إلى طرق لا يعود منها أحد. ومن يشك في الأمر عليه مراجعة أحوال العراق والصومال والسودان ولبنان وفلسطين، ففيهم كثير من الدرس والعبرة ؟!