الذبابة

TT

من عادتي أنني دائماً ما أكون وحيداً، إذا أردت أن ألعب فألعب مع حالي، وإذا أردت أن أبكي أبكي معها كذلك، وإذا أردت أن أنام، أو أرقص، أو أغضب، أو أفرح، أو أغزو، أو أشرب، أو أقضي حاجتي، أو أسوق سيارتي، فدائماً وأبداً أكون وحيداً وحيداً، وسعيداً سعيداً بوحدتي التي لا يشاركني بها لا إنسي ولا جنّي. لا أشكو ولا أتذمّر، أصادق الناس من (بعيد لبعيد)، لكنني لا أذكر يوماً أنني عاديت أحدا، حقاً أنني قد أستسخف بعضهم، واستثقل دم بعضهم، وأجفل من بعضهم، وأهرب من بعضهم، لكنني مع ذلك كله أتمنى لهم الخير من أعماق أو أطراف قلبي. وهذا لا يعني على الإطلاق انني قديس ولا شبه قديس، ولكنني متأكد أنني لست بعفريت، إنني مجرد إنسان طبيعي يخاف على نفسه، ويحافظ عليها من الموت، ويريد لها أن تعيش أطول مدة ممكنة في هذه الحياة الرائعة، التي كلها شمس وهواء ونجوم وغيوم وأشجار وأنهار ورمال وطيور وأمواج ونساء. إنني بدون أدنى شك مفتون بالحياة الدنيا وأملي أيضاً أن أتبعها بالحياة الآخرة، لكي تكتمل الفرحة. إنني لا أتصور أن تفلت الأنفاس من (خياشيمي)، ولا أتخيل مجرد تخيل أنني سوف أصبح يوما هيكلا عظميا، ولهذا السبب رفضت رفضاً قاطعاً أن أتصور (بالأشعة)، رغم أن ذلك التصوير كان ضرورياً جداً لعلاجي.. قد تعتبرونني (مخفوفاً)، أو متطيراً، أو جباناً، سمّوني كما شئتم، لكنني مع ذلك كله راض بحالي، ومعجب بنفسي، خصوصاً عندما أقف أمام المرآة في غرفة مظلمة. وبالأمس كنت أقود سيارتي وحيداً كعادتي، وإذا بي أتفاجأ أن هناك مَن يقطع عليّ وحدتي من دون أي توقع أو استئذان. كانت سريعة الحركة لا تستقر على حال، وتنتقل فجأة من المرتبة الخلفية إلى الأمامية، ولا تتركني أهدأ أو أسوق مثل العالم والناس، فمن كتفي إلى ركبتي إلى خدي. إنها ذبابة لزجة عشقتني إلى درجة القرف، واستغللتها فرصة عندما توقفت أمام إشارة المرور الحمراء، وفتحت زجاج النافذة، وأخذت أهش عليها بيدي لكي أطردها وأخرجها.. وكانت هناك سيارة في نفس الوقت تقف بجانبي وليس بيني وبينها غير شبر واحد، وفي داخلها رجل ملتح، وامرأة منقبة لا أدري هل هي عجوز أم شابة، قبيحة أم جميلة، وفجأة وإذا بالرجل يفتح زجاج سيارته ويمد رأسه ويوجه لي سيلا من الشتائم والاحتجاجات معتقداً أنني كنت أُؤشّر بيدي للمرأة التي بجانبه، فلم أملك (غصب عني) إلاّ أن أبتسم، مما جعله يشيط غضباً أكثر، وفي هذه الأثناء أضاء النور الأخضر وتحركت جميع السيارات، وأردت باختصار أن أوضح له أنه غلطان باعتقاده، فما كان مني إلاّ أن أصيح به قائلا: إنها ذبّانة، ذبّانة، ذبّانة. ويبدو أنني أردت أن (أكحلها فعميتها)، لأن الرجل وصل به الغضب إلى درجة الجنون، فولّع (الفلشر) وعلّق (البوري)، وكاد نصف جسمه أن يخرج من النافذة وهو يصيح ويشتم يريدني أن أتوقف ليعمل خناقة معي، والواقع أنني خفت عليه من أن يصدم، خصوصاً عندما شاهدت سيارته تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، والحمد لله أنني دخلت إلى اليمين في شارع جانبي، واتجه هو مرغماً إلى الأمام في الشارع الرئيسي. وإنني على يقين أنه يعتقد إلى الآن أنني أقصد (بالذبّانة)، المرأة التي بجانبه، وما عرف المسكين أنني أقصد الذبّانة الصغيرة التي أزعجتني، ومع كل هذه (الهيصة)، رفضت الملعونة الخروج.

فهل هناك أمل أن أجد يوماً ما ذبابة (مكحولة العينين) تقف على أرنبة أنفي بكل أناقة وشموخ؟!

[email protected]