بطل نسي مؤلفه

TT

تنقَّل سرفانتس، سيد الأدب الاسباني، في مناصب ومشاغل مضحكة بالنسبة الى مؤلف في مثل عبقريته. نجده طالباً في مدريد العام 1566 وبعد عامين جندياً في ايطاليا في خدمة الجيش النمساوي. ثم جريحاً في معركة مع الاتراك. ثم يظهر في الجزائر حيث يسجن لمدة 5 سنوات ولا يعود الى اسبانيا الا العام 1580. وهنا نراه يعمل محصَّل ضرائب ثم سجينا في اشبيلية بتهمة الهرطقة. وفجأة نراه في بلاط فيليب الثالث، حيث يبدأ بكتابة «دون كيشوت» الشخصية الخرافية التي سوف تؤثر في جميع آداب العالم.

كان آنذاك في السابعة والخمسين. وهي سن متقدمة في تلك الايام. وسوف يغيب بعد 11 عاماً وقد اصبح، في كتاب واحد، اشهر اسم في الآداب الاسبانية القديمة. او بالأحرى بطله، وليس هو. فقد تخطته الاسطورة وعاشت مكانه. والناس تعرف دون كيشوت (او دون كيخوت) لكن القلائل يذكرون سرفانتس او يعرفون شيئاً عنه، او يهمهم ان يعرفوا. هكذا هي ايضاً حكاية «دون جوان» الشخصية التي سيطرت على الادب الاوروبي منذ ان اخترعها تيرسو دو مولينو العام 1625، لكن احداً لا يعرف او يذكر اسمه. ولا احد يذكر دانيال ديفو، لكن بطله روبنسون كروزو احتل مخيلات الاجيال منذ اوائل القرن الثامن عشر.

يختفي المؤلف خلف شخصية خيالية فيبقى الخيال وينسى الرجل الحقيقي. لاحظوا الآن كم منا يعرف اسم مؤلفة هاري بوتر التي طغت شخصية المغامر اليافع الذي عثرت عليه في زاوية من زوايا المخيلة الخارقة. وكم منا حاول ان يعرف من هم مؤلفو «الف ليلة وليلة» لقد اكتفينا بحكايات شهرزاد وصدقناها، ساذجين، مثلنا مثل شهريار. ومثلنا مثل جدودنا الاولين، الذين كانت شهرزاد سلواهم في العشايا القصيرة قبل ظهور الكهرباء والسينما والتلفزيون والشاشة المسطحة ثلاثية الابعاد، حيث ترى الممثلين يتحركون وكأنهم في غرفتك.

يضع كل مؤلف شيئاً منه في بطله المتخيل. لكن سرفانتس وضع كل ذاته في دون كيشوت وكل تجربته وكل يأسه من اصلاح الدنيا التي حوله. وطفق يحاول عبثاً الانتصار على طواحين الهواء. فقد كانت الحقيقة تهزمه دائماً ولا يزال الشر يتمشى على بولفارات العالم، مفاخراً، متباهياً، يحمل هويات كثيرة واسماء كثيرة، وله غاية واحدة: السخرية من الطيبين وذوي النيات الحسنة في هذا العالم، وتصويرهم على انهم مجانين غير «عمليين» وغير «واقعيين». انهم مجرد دون كيشوت آخر، مثل الرجل من لامانشا.

في النهاية يلعن دون كيشوت الكتب التي قرأها. الفروسيات التي صدَّقها. المثاليات التي حلم بها. لكنه يريد ان يموت كما عاش، بدون ان يغير شيئاً وبدون ان يندم على شيء. فليكن «للعمليين» و«الواقعيين» عالمهم الحقيقي. هو لا يستطيع الخروج من عالمه المفترض. انه اجمل واكثر سكينة.