الحوار العربي الإيراني

TT

آن الأوان للتفكير جدياً بحوارٍ عربي إيراني يضع المصالح الوطنية لشعوب المنطقة فوق الأيديولوجيا ويَخرج من أسر التأريخ المأزوم بمشاكل وألغام لا حدود لها، إلى أفقٍ جامع مشترك يكون هدفاً للجميع ومَعلما شاخصا ننظر اليه رؤية واقعية نُراجع فيه جميعاً كل الماضي بهدوء وحكمة من أجل مستقبلٍ نشكلّه نحن جميعاً ابناء هذه المنطقة على ثوابت تجمعنا ونتوافق عليها وتنفع المشترك فيما بيننا، وهو مصالح شعوبنا.

لننظر إلى التاريخ المثقل بالجروح العميقة لهذه المنطقة، بجردة حسابٍ متأنية ومحايدة وبعيداً عن المواقف المسبقة، لنقرأ كم يدفع فيه العراق والعراقيون ثمن الجوار الجغرافي مع ايران وكذلك ثمن تحول ايران الى التعبد بالمذهب الشيعي منذ قرون عديدة ودخولها في صراع مع الدولة العثمانية على أرض العراق، وكذلك ثمن قلقٍ وشك وريبة وتوتر في العلاقة فيما بين ايران والمحيط العربي، وكذلك مع الولايات المتحدة التي جاورت ايران مؤخراً في افغانستان وكذلك في العراق، فيما لم يدفع الجار الأفغاني أي فاتورة لثمن هذه الجيرة بينما يدفع العراق كل ذلك ومطلوب منه أن يثبت براءته ويستصدر شهادة حسن سيرة وسلوك في تعامله، هذه العلاقة المتوترة في المنطقة وتحديداً منذ أن سقط شاه ايران ولحد الآن دمّرت وأخّرت تنميةً واستقراراً كان يمكن أن تنطلق فيه دول المنطقة للذرى في التقدم والاستقرار واستمر القلق من تمددٍ إيراني يعبر ضفة الخليج، وانتشار إيراني في بلاد الشام وأخيراً قلقاً دائما من نفوذٍ لها في العراق الجديد، وسيستمر هذا التوتر مادامت أدوات التعامل وغياب استراتيجية واضحة المعالم تحدد منهج التعامل مع هذا القلق الذي يحمل في جنباته مشروعية ليس من المنطقي إغفالها أو التغاضي عنها، وما من شكٍ بأن الجميع يدفع ثمناً لهذا التوتر من زيادة وتيرة التسلح في منطقة الخليج التي هي مدن وديعة لا تفكر بغير أمن مواطنيها الى جولاتٍ من هروب الأموال خارج حدودها الى تراجعٍ في معدلات نمو كان يمكن لها أن تكون أفضل بكثير من هذا الذي نشهده.

ولعل القلق من تفسير العلاقة بين إيران وشيعة العراق يزيد من الثقل على العراق الجديد، ومع الاعتراف بالحاجة الى المصارحة بتعريف هذه العلاقة من قبل العراقيين لإطفاء القلق العربي وتفهم واستماع عربي مباشرة من أصحاب العلاقة وليس من أشخاص أو جماعات لا يحرصون على نقل الصورة الحقيقية بأمانةٍ ودقة بعيداً عن التضخيم وعن الواقع، ومع الإقرار بأن سلوك وتصرفات ايران وتأثيرها في العراق والذي يُحدّد بوصلة القلق الإقليمي منها، محكوم بعلاقتها مع الولايات المتحدة وكذلك بالدول العربية، فإن هذا التأثير وهذا الثقل يتضاءل كلما اقتربَ العرب من العراقيين وتواصلوا معهم، وكلما تحسنت علاقات ايران بالولايات المتحدة، وهناك حقيقة يجب أن يدركها الجميع بأنه لا الولايات المتحدة ولا العرب يستطيعون أن يحدّوا من تأثير النفوذ الإيراني في العراق، بل إن العراقيين، والشيعة منهم بالذات، هم من يستطيع ذلك فيما لو أحسن العرب التعامل مع تطلعاتهم ببناء عراقٍ ديمقراطي مستقل يتشارك فيه الجميع برؤية وطنية تبتعد عن الطائفية وعن التصنيف الطائفي الذي يشكل خطرا على النسيج الاجتماعي الذي يمكن أن يتحول لمرضٍ سريع العدوى والانتقال.

ومن المناسب أن نتذكر بأن 28 عاماً من عُمر الثورة في إيران والتي تميزت بحربٍ ضروسٍ امتدت لثماني سنوات مع العراق واحتواءٍ مزدوج ومقاطعة اقتصادية وريبة في العلاقة معها لم تمنع استقرار نظامها وتطوير مواردها وقدراتها التي وصلت لتهديدٍ نووي يُقلق الجميع وبات يطرح أسئلة مشروعة عن نوايا إيران المستقبلية، لذلك فان هذه السياسة والنهج الذي تتبعه الولايات المتحدة والدول العربية تحتاج لإعادة نظر من جديد لصياغة وبلورة مشتركاتٍ تُسهم في استقرار إقليمي يستفيد منه الجميع.

هذا الحوار العربي الإيراني المقترح لابد أن يبدأ وتقوده الأطراف الفاعلة في القرار العربي، كمصر والسعودية، والتي بدأت بخطوات مشجعة في العلاقة مع ايران، ولا شك أن الأردن وسوريا ولبنان ودول الخليج معنية أكثر من دول المغرب العربي بتنشيط هذا الحوار وتطويره والتفاهم على قواعد للتعامل معه لنزع بذور التوتر والريبة، فليس من المنطقي أن يتحاور العرب مع اليابان البعيدة أو مع أوروبا بينما تُوصد أبواب الحوار مع إيران، وليس من الحكمة أن تدخل واشنطن في حوار مع طهران وبينهما ما صنع الحداد ويتفرج كل العرب على ذلك، وسيكون العراق سعيداً لو نجح في إقناع الأطراف بجدوى هذا الحوار وفائدته، لابد أيضا أن يسعى هذا الحوار لوضع ثوابت التعامل الجديد الذي يُطفئ القلق والشك والريبة من النوايا الإيرانية عند الجميع وينتقل إلى تعاون اقتصادي وسوق مشتركة تكون بديلاً عن أثقال وهموم التأريخ. ومن المناسب أيضا القول بأن تطوير مشاريع مشتركة في دول الهلال الخصيب ومجلس التعاون سيُخرج العلاقات الى آفاقٍ جديدة بعيدة عن الارتهان للتفسيرات الأيديولوجية ـ التي انكفأت في إيران نفسها ـ ويشجع المنطقة على الخروج من أسر السياسة المبنية على الأيديولوجيا لأفق اقتصادي واعد يحتاجه العراق وكذلك المنطقة في تطوير حقول نفطية وغازية مشتركة مع الكويت وإيران وسوريا والسعودية وخطوط أنابيب نفط وغاز وشبكة ربط كهربائي وتجارة ترانزيت هائلة عبر المتوسط والخليج وإيران وسلع وخدمات وسياحة دينية ومنتجعات سياحية في كردستان تحقق فرص عمل لا حدود لها تعطي أملاً برفاه ومستقبل واعد لشعوب المنطقة، أعتقد أن هذه النظرة ستُخرجنا جميعاً من قيود التاريخ وإرثه ومشاكل الجغرافيا وتعقيداتها لتتواصل المنطقة بروح الترابط الاقتصادي الذي يذوّب الكثير من الجليد، ومع الاعتراف بأن هذا التوجه يحتاج لجهد الجميع وزمن يمكن اختصاره بالرغبة الصادقة والنوايا السليمة.

ومن الواضح بأن تفسير الخطر الإيراني من الرؤية الأمريكية لا يتطابق مع التفسير العربي لذلك وبالتالي يستدعي أن يرتب الجانب العربي علاقاته الخاصة بعيدا عن المتغير الأمريكي الذي يمكن أن يكون سريعاً.

* الناطق الرسمي للحكومة العراقية