بين الحلم العربي .. والحل اللبناني

TT

الاخفاق الاخير لأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى الذي وصل الى بيروت حاملا مبادرة عربية مدعومة بإجماع «استثنائي»، يدل على ان المبادرة كانت نتاجا لتعادل سلبي في موازين القوى العربية البينية، الامر الذي افضى الى نتيجة تحمل التباساً سمّاه موسى غموضاً بناءً ربما لأنه أمّن الحد الادنى المطلوب لعدم انفراط عقد الإجماع الوزاري العربي وانكشاف المستور.

هذا الاجماع الذي زخّم انطلاقة المبادرة، قبل ان يسقط على اول محكّ لبناني، أثبت بالملموس أنه مجرد قنبلة دخانية قدمت بواسطتها سوريا اوراق الاعتماد المطلوبة للحفاظ على اوسع تضامن عربي شكلي، فضمنت بذلك غطاء في مواجهة عاصفة زيارة بوش الى المنطقة، وربما حصّنت امكان نجاح القمة العربية المقبلة في دمشق او على الاقل دفعت عن نفسها شبهة شق عصا الطاعة العربية، فسحبت من ايدي المقاطعين المحتملين اوراقاً اساسية أملا في إلغاء مقاطعتهم او في تحسين مستوى التمثيل.

والغريب ان الاجماع العربي الذي انعقد حول لبنان هو اول اجماع في العالم يتم اعلانه رسميا قبل حصول الاجتماع الوزاري لمناقشته، مفارقة دفعت الى التساؤل عما وراء الأكمة التي تكشّفت عن مناورة سورية جديدة لكسب الوقت ولامتصاص الامتعاض العربي والنقمة الدولية، اذ ان احداً لم يكن ليصدق بان اجتماعا وزاريا ليليا في منزل عمرو موسى سيدفع سوريا الى التخلي عن التحالف الاستراتيجي مع ايران والانخراط في متن الاجماع العربي حول حل المعضلة اللبنانية الواقعة في صلب مروحة من المتغيرات الجذرية التي تنتظرها المنطقة.

قبلت سوريا بما صاغه العرب «في ليل»، تاركة لحلفائها في لبنان اكمال المهمة في وضح النهار. كيف لا وقد بدت فجأة سوريا، التي كانت طيلة ثلاثين سنة خلت تأمر فتطاع، عاجزة عن اقناع حلفائها اللبنانيين بقبول اجماع العرب، والأصح غير راغبة في الضغط عليهم لئلا تقع في شبهة «الوصاية» مجدداً.

هكذا اكتملت فصول المناورة فلا يمكن لأحد ان يطلب من النظام السوري اكراه حلفائه من اللبنانيين على ما لا يريدونه او «ما لا يريده لهم»، كما لا يمكن لأي كان ان يدعي بان سوريا لم تساهم في الاجماع العربي ولم تسع لترجمته «قدر المستطاع». وبالفعل سيصل وزير الخارجية السوري الذي اجتاز امتحان الاجماع العربي النظري بدرجة امتياز الى الامتحان العملي في السابع والعشرين من الشهر الجاري مدعّما برصيد حسن نية ملموس، سيقول ان سوريا لم تفلح في تسييله على ارض الواقع في لبنان... وطبعا «لا يكلّف الله نفسا الا وسعها».

على هذا المنوال يتمكّن اللاعب السوري المتقن دهاليز السياسة اللبنانية، والخبير في التعاطي مع القرارات العربية من استيعاب «هجمة عرب الاعتدال» وتفريغ مبادرتهم من دون تكبد عناء مواجهتها. ولهذا كان كلام وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل جازما في الاصرار على ضرورة قيام سوريا «بإقناع» حلفائها اللبنانيين بقبول الحل العربي. لكن ماذا لو لم يقتنع حلفاء سوريا وتمردوا «على غير عادة» على شقيقتهم الكبرى، بل ماذا لو لم تبذل الشقيقة الجهد الكافي لإقناعهم، اي العواقب ستلاقي؟ اذا كانت العاقبة مقاطعة القمة فقد جرب العرب المقاطعة شبه الشاملة ولم تفلح في ازاحة الاستراتيجية السورية قيد انملة عن الالتحام العضوي مع ايران، لا بل انها زادتها تماسكا. وإذا اضيف الى المقاطعة الغضب العربي ونفاد الصبر الدولي فهذه عملة لا تصرف في سوق السياسة السورية، ولا يمكن لها ان تلجم المناورة السورية عن السير في طريق اسقاط المبادرة العربية ان لم يكن بالضربة القاضية فبفارق النقاط.

لكن الحقيقة ان المناورة السورية لم تكن السبب الوحيد ولا الاساسي لتداعي الحل العربي حتى لا نقول اسقاطه تماما على الارض اللبنانية.

فالحل تداعى لان موسى الذي جال بين اقطاب السياسة في لبنان لم يكن يواجه ازمة ثقة بين اللبنانيين فحسب بل انشطارا عربيا وحربا باردة ايرانية ـ أميركية تتخذ لبنان واحدة من ساحات المنازلة.

تداعى الحل لأن العرب لا يملكون شوكة ولا سلطانا في لبنان، فلا خط امداد يصلهم به ولا قوّة عسكرية لهم او تأتمر بهم، فجاءت مبادرتهم مجرد نص ارشادي يضع قواعد فضفاضة للحل ويحذر من عواقب فشله في بلد اصبح الاغتيال والتفجير عاملا مكوناً في تغيير قواعد اللعبة السياسية فيه.

تداعى الحل لان قدر العرب وقضاء بعضهم ان يهيمن التجاذب بين الثقل التركي والطموح الفارسي والحقد العبري على القرار العربي.

تداعى الحل بدليل كلام الرئيس المصري حسني مبارك عن العواقب الوخيمة للفشل الذي بدأ يلوح في الافق، بما يؤشر الى بداية نفض يد عربية من ازمة لا يبدو افق التدويل مفتوحاً امامها، لان الدعم الدولي المحدود للحل العربي لا يملك هو الآخر مخالب في لبنان، وجل ما يملكه مجموعة من الرهائن التأمت تحت راية «اليونيفيل» وباتت وظيفتها الاساس مشاطرة اللبنانيين فاتورة الاغتيال والتفجير.

الحل العربي لم يصمد امام امتحان تفسيره باللغة السياسية اللبنانية، فوقع في فخ المعادلات الرقمية للحصص في مجلس وزراء لم يُنتخب رئيس جمهورية ليشكله أصلا!

كل ما تقدم يجعل الحل العربي اقرب الى الحلم الذي اصطدم بأرض لبنانية يفترض ان تكون المواجهة فيها مؤشراً اساسياً على النجاح او الفشل في صياغة خيار عربي مستقل ووازن على رقعة الصراع الاقليمية.

امام هذا الواقع الحساس والاستراتيجي للأزمة اللبنانيّة المفتوحة على صراعات كبرى تعصف بمرتكزات الدولة والصيغة في لبنان وتهدد خيارات الاعتدال العربي من البوابة اللبنانية، لا بد من اجراء يتخطى العوائق الرقمية عن طريق قطع رأس الرقم الصعب، وهذا لا يتم عملياً، في ظل تعنّت قوى 8 آذار ومن خلفها، الا بقيام قوى 14 آذار مدعومة «بغطاء عربي» بالتنازل المسبق عن الثلث زائد واحد من الوزراء او ما يعرف بالثلث الضامن او المعطل في الحكومة العتيدة لصالح قوى 8 آذار، وذلك لتأمين 4 منجزات كبرى على رأسها:

قطع الطريق على ما تسمّيه قوى 14 آذار «خطة سورية ـ ايرانية لتكريس الفراغ في الرئاسة اللبنانية».

ايصال العماد ميشال سليمان لتعزز مسيرة الدولة اللّبنانية التي تقول قوى 14 آذار انها المضاد الموضوعي لـ«دولة حزب الله» ولجموح ميشال عون الرئاسي.

وضع لبنان على سكة الاستفادة الاقتصادية مما تبقى من الطفرة في النفط الخليجي قبل فوات الأوان.

عندما تمنح قوى 14 آذار الثلث المعطّل لقوى 8 آذار تقدّم لها عمليا «امكان» تعطيل الحكومة لكنها تسحب منها ومن «لاعبين خارجيين» التعطيل الفعلي لمرافق الدولة والذي يبرز على مستويات ثلاث:

سياسياً من خلال الفراغ الرئاسي وإقفال مجلس النواب والطعن بشرعية الحكومة التي ينحصر عملها حاليا في دائرة تصريف الاعمال.

امنياً عبر انهيار الامن السياسي الذي يشكل مدخلا لتصدع امني يجد ترجمته في الاغتيالات والانفجارات المتنقلة المترافقة مع تحرّكات استعراضية وحملات سياسية مفبركة تهوّل بعودة شبح الحرب الاهلية.

اقتصادياً بواسطة الاعتصام الذي يشل وسط بيروت التجاري منذ عام ونيّف، مع ما يرتبه من تداعيات تطال دورة الاقتصاد بكل تفاصيلها.

واخطر ما في هذا المشهد الثلاثي القاتم اسهامه، في فترة قياسية، بتعزيز الطلب على الهجرة التي ازدادت بوتيرة تنذر بتفريغ لبنان من الادمغة والكوادر.

ان إشراك قوى 8 آذار بالحكم من خلال الثلث الضامن ليس مخرجا بل حاجة ضرورية لوضع هذه القوى امام مسؤولياتها الوطنية عن كل ما يجري، بعدما اعتادت على إلقاء تبعات الانهيار السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري على كاهل حكومة تصر على خلوّها من مقومات الشرعية.

فمثل هذا الحل يشكل تراجعا، تكتيكياً، اضافيا لقوى 8 آذار، لكنه يؤمن، استراتيجيا، مخرجا ظرفيا من مأزق يشد على خناق الجمهورية اللبنانية ويهدد الكيان. انه حل يضمن للاكثرية اللبنانية وحاضنتها العربية امكان استعادة المبادرة وفق ديناميّة تغير قواعد اللعبة وتسحب الاشتباك والتعطيل من الشارع والمؤسسات لتحصره في مجلس الوزراء.

في المقابل لن تكون خسارة قوى الاكثرية كبيرة لان قوى .. آذار تملك بالأصل قدرة تعطيل طائفيّة، ثبت أنها قادرة ليس على تعطيل الحكومة فحسب بل على تعطيل الدولة برمتها في ظل غياب رئيس الجمهورية، وها هي حكومة الأكثرية اليوم تحتاج الى زيارات الى المراجع الروحية وغطاء اعلامي ونيابي وسياسي وشعبي لعقد اجتماع عادي من أجل اتخاذ قرارات بسيطة.

يبقى احتمال وهو ان ترفض قوى 8 آذار او تعرقل مثل هذا الحل، لكن الاكثرية اللبنانية تكون قدمت ما عليها تجاه اللبنانيين وأمام الرأي العام العربي والدولي، لتقف قوى 8 آذار عارية امام مرآة التعطيل. وسيكون عندها للبطريركية المارونية والجيش والعرب والعالم، رأي آخر وموقف آخر يفترض الا يكون فيهما مكان للخطابات الرمادية والمبادرات التبسيطية او الغامضة.

* كاتب لبناني