الأمن البشري.. منطلقاً لحوار الحضارات

TT

موضوع العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب لا يزال يتصدر عناوين المؤتمرات وندوات الحوار التي تعقد بين آونة وأخرى، وإن كان التوجه أخيراً قد انحاز إلى تحديد عناوين أكثر دقة مما سبقها في بداية عقد التسعينات مما يعكس فهماً أوضحَ لطبيعة تلك العلاقات وتعدد أوجهها. وبدعم من منظمة الأمم المتحدة، قامت بعض الدول؛ وعلى رأسها إسبانيا وتركيا، بإطلاق مبادرة دولية تحت عنوان «تحالف الحضارات» تسعى إلى صياغة إرادة سياسية موحدة تتغلب على تيارات سوء الفهم والتحامل على «الآخر» في جميع المجتمعات البشرية. ومن أهداف هذه المبادرة الدولية التي اختتم مؤتمرها السنوي الاول في العاصمة الاسبانية، مدريد، يوم امس إعداد تقييم موضوعي عن التهديدات الناشئة للأمن والسلام الدوليين، وكذلك رفع توصيات عملية ذات فعالية لدعم وتطوير الانسجام والتآلف بين المجتمعات الإنسانية.

إن الانطباع الشائع في العالم الإسلامي يعكس صورة تذمّر من ممارسات الدول الكبرى في مجال العلاقات الدولية، وتحديداً تلك الوسائل الانتقائية السائدة في السياسة الخارجية للدول الغربية تجاه قضايا العالم الإسلامي، كما شاعت بالمقابل في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية صور نمطية عن الإسلام وشعوب العالم الإسلامي وخاصة الشعوب العربية، حيث توصف بالتخلف الثقافي والاجتماعي ونواحي الحياة الأخرى، مما يبرر جعلها هدفاً لحملات الهيمنة والتحديث. إن حالة التشنج الفكري والثقافي هذه تولد قطبية في الفهم لدى الجانبين تزداد معالمها سوءاً يوماً بعد يوم حتى أصبحت تشكل عند البعض في كلا الطرفين دوامة الإعصار التي تجذب كل شيء إلى مركزها المدمر واستقرت عند البعض فكرة حتمية الصراع بين العالمين الإسلامي والغربي، متناسين تعددية الأفكار وتباين المواقف بل وتطور التجارب الإنسانية في كل المجتمعات، مما يوفر فرصة حقيقية لتحسين الواقع الحالي لعلاقة دول العالم الإسلامي بالغرب عموماً.

ولنضرب مثالاً بمفهوم الأمن القومي، والذي كان إلى عهد قريب ينحصر في إطار حماية الدولة من التهديدات الخارجية بما يضمن سيادة واستقلال الدولة وأراضيها. إن مفهوم الأمن القومي اليوم أصبح أوسع مجالا ليشمل الأمن البشري كذلك، وهذا يعني أمن الشعوب من الجوع والعطش وحصولهم على القدر المناسب من التعليم والرعاية الصحية بما يكفل للمواطن عيشة كريمة.

ومما لا شك فيه ان دول الغرب المتقدمة قد بنت لشعوبها صرحاً من الأمن والرفاهية الاجتماعية وطورت خبرة مواطنيها في مجالات الاقتصاد والتعليم والزراعة والخدمات الصحية واستخدمت التقنيات الحديثة في الاتصالات والإدارة لرفع مستويات الدخل القومي في دولها. ويمكنني القول ان الحضارة التي طورها العالم الغربي (واستخدم لفظ الحضارة لشمولها القيم الإنسانية المشتركة بين البشر)، انما هي حضارة إنسانية أنتجتها جهود بشرية متراكمة يمكن بل يتحتم الاستفادة منها في تنمية المجتمعات العربية الإسلامية ورفع مستوى النمو الاقتصادي والصحي والتعليمي لشعوبها، بما يحقق ضمان أمنها القومي من خلال رفع مستوى الأمن البشري فيها.

ومن هذا المنطلق، فانني أدعو الجهات الرسمية وشبه الرسمية وقطاع المجتمع المدني في العالمين الإسلامي والغربي لتوسيع ساحة الحوار بينهم ليشمل مجالات تنمية المجتمعات ورفع مستوى النهضة الاقتصادية والتعليمية والصحية لشعوب العالم بما يضمن استقرارها وأمنها القومي.

إن الصورة الذاتية التي يعكسها الأفراد عن أنفسهم أو مجتمعاتهم وصورة «الآخر» تتكون من خلال عملية ديناميكية متأثرة بالأحداث الخارجية ومتفاعلة مع التداخل الحاصل بين المجاميع البشرية تتشكل من خلال هذا التفاعل البشري وبفعل المؤثرات الإعلامية صورة «الآخر» عندنا.

وقد أكدت دراسة ميدانية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن الغالبية العظمى من الغربيين الذين لديهم صورة حسنة عن الغرب والمسلمين هم من الذين تعاملوا مع المسلمين وتواصلوا معهم بدافع من صداقة شخصية أو جوار أو عمل تجاري. وفي المقابل، فان غالبية الغربيين من أصحاب النظرة السلبية عن المسلمين قد اكتسبوا ذلك من خلال وسائل الإعلام التي ركزت على أحداث الصراع السياسي بين دول الغرب وبعض الدول الإسلامية. وهناك دراسات علمية رصينة وجادة أكدّت أن صورة المسلم في العقل الغربي قد تشكلت من خلال احداث الصراع السياسي في منطقة الشرق الأوسط مهمشة تماماً دور الجوانب الإنسانية الأخرى في تحديد العلاقة بين المسلمين والغرب، والتي تشكل في حصيلتها زخماً مهماً يعزز من فرصة نجاح الحوار الهادف والتعايش البنّاء لمصلحة الجميع.

وإذا كنا صرحاءَ، فيمكن أن نقرّ بوجود تشوه في صورة الإنسان الغربي ومجتمعه عند شريحة من المسلمين الذين لا يرون الغرب إلا بمنظار معتم لا يرجى منه خير وهذا أثر فكري من آثار التطرف المذموم الذي ينبغي تجنبه وقيام أهل الرأي بمعالجته. وهنا تبرز أهمية الدعوة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين في كلمته في موسم الحج الأخير في منى والتي جاء في مضمونها تشجيعه للتواصل الثقافي والحوار الحضاري بين الشعوب خدمة لأهداف السلام والاستقرار الدوليين.

لقد كتب الكثير عن نظرية صراع الحضارات وتصدى لتفنيد مزاعمها العديد من الكتاب المسلمين والغربيين على سواء، وأود أن اضيف أن الصراع المزعوم إن حدث فسيكون نتيجة طبيعية لضمور تيار الإنصاف والاعتدال، والذي يعزز مبدأ المصالح المشتركة في العلاقات الدولية ويقابل ذلك غلبة تيار سياسة الهيمنة والتحكم في مصالح الشعوب فينبغي لأهل الرأي وصناع القرار في العالم الإسلامي العمل الجاد على تغليب تيار الاعتدال في الغرب والذي يدعو للتعايش مع «الآخر» ضمن منظومة من القيم الإنسانية المشتركة على تيار التطرف الغربي، والذي يرّوج لرفض كل ما عند المسلمين من قيم إنسانية وتقاليد حضارية بنيت عليها نهضة مجتمعاتنا العربية والإسلامية واستقرارها لقرون طويلة.

إن المتأمل في أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد أن النهضة المرتقبة لمجتمعاته تعتمد على ركائز ثلاث؛ أولها نظام اقتصادي ذو كفاءة في الإنتاج ونمو مطرد، ونظام تعليمي شامل وحديث ونظام سياسي يعتمد اسس مشاركة الشعوب في القرار وسيادة القانون. كل هذه الركائز تحتاج إلى شراكة حقيقية مع شعوب العالم لإنجازها؛ ومن هنا تنطلق الدعوة لتوثيق الحوار بين العالمين الإسلامي والغربي وإثراء مضمونه، بما يحقق أهداف السلام والاستقرار في العالم.

* أكاديمي عراقي بمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية بجامعة أوكسفورد البريطانية