آخر العلاج.. التدويل؟

TT

ليست المرة الأولى التي ينوء فيها الإناء اللبناني بحمل تناقضاته المذهبية والثقافية والاجتماعية. ولكنها المرة الأولى التي يعجز فيها الوعاء العربي الأوسع عن احتواء تداعياته، حتى بدعامة الغربين الأوروبي والأميركي.

من الطبيعي لكل أناء أن ينضح بما فيه. وأي نظرة موضوعية الى تركيبة الإناء اللبناني تجعل من الصعب اعتبار أزمة لبنان الراهنة بأنها سياسية بقدر ما هي بنيوية.

ربما كانت ثورة عام 1958 تجربة الكيان الاستقلالي اللبناني الأولى في اختبار التداعيات الداخلية والخارجية لتصادم «مكوناته» الديمغرافية ببعضها البعض.

ورغم ان هذا التصادم كان مؤشرا أوليا على هشاشة الرابط القومي بين مكونات التركيبة الاجتماعية في لبنان، فقد استطاع العمق العربي ـ المتمثل آنذاك بالجمهورية العربية المتحدة ـ احتواءه من دون الحاجة الى تعديل يذكر «للصيغة اللبنانية»، ولكن بوصاية غير معلنة على توجهه الخارجي.

وفي هذا السياق كانت حرب 1975 ـ 1991 الأهلية عودا على بدء وإن بوتيرة أكثر حدة وتداعيات أكثر تشعبا. مع ذلك توصل العمق العربي ـ المتمثل في الدرجة الأولى بالسعودية ـ إلى احتوائها ولكن بتعديل اضطراري «للصيغة اللبنانية» (لم يعكس تماما الحصيلة الميدانية للحرب)، وتوجيه واضح لسياسته الخارجية.

إلا أن تعامل الوصاية السورية «الاستنسابي» مع مكونات المجتمع اللبناني لم يساعد على «تدوير زوايا» التناقضات اللبنانية، بل زادها بروزا.

أما أزمة العام 2007 ـ 2008، فرغم أنها أزمة «سياسية» في أبعادها الظاهرية، فقد عجز العالم العربي عن احتوائها حتى بمبادرة جماعية منه، كما بدا الغربان، الأميركي والأوروبي معا، غير قادرين على ترجيح التسوية العربية لها. ماذا استجد على أزمات لبنان التقليدية ـ والدورية ـ لتصبح مستعصية على حل عربي ودولي معا؟

الواقع أنه منذ ان حاول تحالف الأصوليين والوصوليين ـ في إطار ما يسمى بالمعارضة اللبنانية ـ تقديم «آيديولوجية» العهد المقبل على عملية الاستحقاق الدستوري لم يعد الفراغ الدستوري في لبنان أزمة حكم بل أزمة نظام.

وإذا كان ثمة عبرة «تاريخية» يمكن استخلاصها في حسابات المعارضة من عرقلة المبادرة العربية الجماعية فقد تكون عبرة «جغرافية ـ ديمغرافية»: كيان «لبنان الكبير» لم يعد قادرا على تحمل تناقضات أنائه الداخلي... فإما الانفجار أو الاتفاق على «طائف ـ 2» لصيغة بنيوية ـ سياسية جديدة له.

قد تبدو هذه الفرضية مبالغا فيها. ولكن لا خلاف على أن لبنان لم يشهد قبل اليوم هذه الحدة في الانقسامات المذهبية والثقافية والاجتماعية، فلم يعد مستغربا أن نسمع من مسؤولين كبار تهديدات «بالطلاق»، ولم يعد مستهجنا أن يعبر الكثيرون عن ضيق صدورهم بما يعتبرونه «ثقافة الموت»، ولم يعد مرفوضا أن يطرح سياسيون معارضون حلولا للأزمة خارجة عن نص وروح اتفاق الطائف، ولم ممجوجا أن يعود الى العلن الحديث عن «الفدرالية».

السؤال الذي يطرح نفسه في هذه المرحلة هو: هل ان الاتفاق على اسم رئيس الجمهورية وعلى التشكيلة الحكومية المقبلة ـ إن تم ـ كفيل بإنهاء أزمة لم يعد الكيان اللبناني قادرا على استيعابها رغم كل الضغوط العربية والدولية؟

منطق تأزيم الفراغ الرئاسي إلى حد تحويله الى أزمة نظام، يوحي بأن المعارضة اللبنانية تدفع الأمور نحو «طائف ـ 2»... أو الشارع.

وعلى هذه الخلفية بالذات يندرج تحذير الرئيس حسني مبارك من احتمال أن «ينفض» العرب أيديهم من لبنان، وتلويح وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، بـ«تدويل» الأزمة والعودة بها الى مجلس الأمن.

بين «التعريب» و«التدويل» لا يختلف اثنان على أولوية الحل العربي بل وضرورته في تأكيد الانتماء القومي للبنان.

ولكن المخاوف التي بدأت تتردد عن احتمال أن تحبط الأزمة اللبنانية اجتماع القمة العربية المقترح في دمشق، توحي بأن لبنان أصبح عامل فرقة بين العرب بعد أن كان العرب عامل توحيد للبنان.

لذلك قد يبدو الحل الدولي أكثر واقعية في هذه المرحلة... وإن كان، كالكَيّ، «آخر العلاج».