أحاديث ما بعد الجولة

TT

مع انتهاء جولة الرئيس بوش في الشرق الأوسط لا أجد أفضل من استهلال مقالي بنقل تعليق نشرته جريدة الـ«هيرالد تريبيون» في عدد 15 يناير ذكرت فيه أن «الرئيس الأمريكي أبدى قدراً غير معتاد من الإحساس بالعجلة الدبلوماسية، مؤكداً ضرورة أن تصل إسرائيل والفلسطينيون إلى اتفاق سلام قبل أن يغادر منصبه في بداية 2009 ومحاولاً عن طريق الكلام دفع العملية إلى الأمام». وليس من شك في أن الكلام أفضل من لا شيء، خاصة بعد أن أمضى بوش سبعة أعوام رافضاً أن يتدخل، ولكن المشكلة هي أنه لم يعد هناك وقت كثير، وبينما على بوش أن يقلق على ميراثه، فإن بقية العالم يجب أن تقلق على مزيد من خيبة الأمل والغضب يترتبان على فشل هذا الجهد من أجل السلام الذي تأخر كثيراً، فقد مضت ستة أسابيع على استضافة بوش لمؤتمر أنابوليس للسلام ولم يتغير شيء على الأرض.

فالإسرائيليون ـ رغم وعودهم ـ يرفضون وقف توسيع المستوطنات بينما الفلسطينيون لا يبذلون جهداً كافياً لوقف العنف ضد إسرائيل. ومن المفهوم أن موضوعات التفاوض الأساسية صعبة ولكن الإسرائيليين والفلسطينيين لم يكونوا على استعداد لتقديم تنازلات إلى أن يروا تحسناً في معيشتهم». واكتفي بهذا الجزء من التعليق، الذي وإن كان يحتوي على مغالطات، إلا انه يعكس حقيقة أن الرئيس بوش لم يدرك جوهر الموضوع الذي قرر بعد طول تردد تناوله بدون أن يفهم أن أساس المشكلة هو استمرار عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني وأرضه وحياته وإصرارها على أن تغتصب أكبر قدر من حقوقه اعتماداً على فلسفة عنصرية وعدوانية وعلى مساندة أمريكية لا تضعف حتى إزاء أشنع الممارسات التي تعكس استخفافاً بحياة البشر وبكل الأسس التي تصور العالم أنها ستحكم العلاقات الدولية بعد القضاء على النازية وإقرار ميثاق الأمم المتحدة. ولعله من الغريب أن هذه الممارسات الإسرائيلية صاحبت كل مرحلة من مراحل رحلة بوش الأخيرة، فلم يخل يوم من اجتياحات إسرائيلية وغارات ضد المدنيين في بيوتهم وشوارعهم وسياراتهم وسقوط الضحايا من الرجال والأطفال بدون أن يلتفت الزوار الأمريكيون لذلك بكلمة أو بدمعة مما نراه يسيل كلما جرى الحديث عن الهولوكوست الذي مضت عليه أكثر من ستين عاماً بينما تلك المجازر تشكل الموسيقى التصويرية لرحلة قيل لنا انها تستهدف وضع بداية جديدة لعملية سلام. وقد استنتج الكثيرون من ذلك أن الهدف الحقيقي لم يكن هو البحث عن السلام بل التغطية على أهداف أخرى لم يكن من الصعب استنتاجها. وليس من شك في أن من بينها إيران، ولكني أؤجل الحديث عن ذلك لبرهة التفت خلالها إلى أمرين: أولهما شكوى الرئيس الأمريكي من ارتفاع أسعار النفط وتأثيره ـ على حد قوله ـ على معاناة المواطن الأمريكي.

ولعله يسهل وصف الشعور الذي ينتاب المرء عندما يسمع تباكياً على معاناة الأمريكي بسبب ارتفاع سعر النفط، الذي تتحمل واشنطن جزءا على الأقل من أسباب حدوثه، ولا يسمع تعاطفاً حقيقياً مع من يسقطون كل يوم تحت وابل القنابل وجنازير الدبابات وقصف الطائرات الإسرائيلية من المواطنين الفلسطينيين الذين يطالبون بحقوقهم بالأسلوب الذي لم تترك لهم إسرائيل وحلفاؤها غيره. أما الأمر الثاني فهو اهتمام الرئيس الأمريكي بعقد صفقات سلاح. يضاف إلى ذلك التحريض على حرب أهلية فلسطينية باعتبارها ثمناً لتحسين أحوال الفلسطينيين والتلويح لهم بإمكانيات إيجاد تسوية اعتقد أن من يلوحون بها لا يقصدون أن تكون استجابة لدواعي الحق والعدل ومقتضيات القانون الدولي، فقد سمعنا الرئيس الأمريكي ـ الذي تلجأ بلاده إلى مجلس الأمن للمطالبة بمعاقبة من لا تقارن أفعالهم أو الاتهامات الموجهة لهم ـ بما تقوم به كل يوم إسرائيل بمباركة غير خافية من واشنطن ـ حكومة وبرلماناً ـ سمعنا الرئيس الأمريكي يقول ما معناه انسوا الماضي ولا تفكروا في الاستناد إليه لأنه لم يقدكم الى أية نتيجة، وهو يقصد بالطبع قرارات الأمم المتحدة، ويقول ان المتاح حاليا هو التفاوض، ثم لا يضع لهذا التفاوض أي أسس سوى خريطة الطريق التي ثبت أنها خريطة لا تؤدي إلى أي مكان، وأن الطريق التي تشير إليها هي إما طريق مسدودة، أو طريق تؤدي إلى مزالق لا علاقة لها بالسلام. وإذا وصل الحديث بنا إلى إيران، فلست أريد أن أتوقف عند حقيقة أنه مهما كان الرأي في بعض التصرفات الإيرانية فإنها لا تقارن بما تفعله إسرائيل، ومع ذلك فإن المعايير المزدوجة هي التي تحكم كالعادة المواقف الأمريكية. وإذا كانت زيارة الرئيس الأمريكي استهدفت ـ في مقدمة ما استهدفته من أهداف حاولت غير جاهدة مواراتها وراء غيرها ـ دفع الدول العربية إلى السير وراءها أو إلى جانبها فيما قد تكون تعده للتعامل مع إيران، فقد جاءه الرد واضحا في تصريحات عربية ـ ومنها تصريحات الأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية ـ بأن إيران ليست عدوا. والواقع انه إذا كانت هناك خلافات بين العرب وإيران، فان الحوار هو القادر على تسويتها، ولعل بعض تلك التصرفات الإيرانية المشكو منها هي في جزء منها استغلال لأوضاع ترتبت على عدم الإقرار بالحقوق العربية، حتى إذا كانت في جزء منها رواسب لأطماع يمكن معالجتها عن طريق رسم خريطة جديدة للعلاقات العربية ـ الإيرانية توضح خطوطا حمراء لا يجوز تجاوزها ضماناً لإقامة علاقات سوية لمصلحة الطرفين تقطع الطريق على من يحاولون الاصطياد في المياه العكرة، أو تعكير المياه الصافية حتى يمكن بعد ذلك الاصطياد فيها، أو حتى تسميم الآبار. وخلاصة القول إني لا أرى أن رحلة الرئيس بوش قد حققت أهدافها الحقيقية أو المفترضة، المعلنة أو المخفية، وقد كان واضحاً أنه لم يكن هناك ترحيب كبير بها رغم بعض المظاهر، فقد صاحبها غضب شعبي تجلى في عواصم عدة وترك له العنان لكي يعبر عن نفسه، كما صاحبها تشكيك إعلامي يكاد يكون شاملاً، وبرود رسمي. ولست أشك في أن الرئيس الأمريكي استمع في الحجرات المغلقة إلى نغمات غير موسيقى الفرق التي عزفت النشيد الوطني لأمريكا والدولة المستقبلة. وإزاء ذلك كله فقد أدهشتني بعض التعليقات القليلة التي عادت إلى نغمة تشبه نغمة أن أوراق اللعبة كلها، أو 99% منها، في يد أمريكا. وأعرف أن هذا القول صدر عن الرئيس السادات في ظروف أخرى وكان هدفه أن يحفز واشنطن إلى تدخل ايجابي، وكان يدرك أن ذلك ليس تعبيرا عن حقيقة واقعة بدليل أنه لجأ إلى الحرب عام 1973 وهي التي فتحت الطريق إلى إمكانيات تسوية حقيقية أسفرت في مرحلتها الأولى عن عودة سيناء إلى مصر، وكان المفترض أن تؤدي ـ لو أحسن استخدام تداعياتها ـ إلى تحرير بقية الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي سمعت الرئيس السادات يؤكد أنها هدفه.

كانت تلك إذن ظروفا مختلفة، أما أن يكرر البعض مقولة الـ99% أو يفكر فيها بدون أن يفصح فإن ذلك يعكس رغبة في الاستسهال الذي لا مبرر له.

فلدينا أوراق أخرى كثيرة، لعل أولاها أن لدينا مشروعاً عادلاً ومتكاملاً للسلام هو المبادرة العربية التي تحتاج إلى أن ندعو إليها بقوة وتفصيل بعد أن حاول البعض طمسها ودمغها إلى طريق النسيان. وعلينا في سبيل ذلك أن ندعم الجهود لتسوية المشاكل العربية ـ العربية وهو أمر ليس مستحيلا رغم الأهواء والأوهام والأطماع الصغيرة التي يجب أن تنزوي إزاء أخطار تحيط بنا جميعاً، ولعل الفلسطينيين يدركون أن استمرار أوضاعهم الداخلية الحالية هو إهانة لماضيهم النضالي ووأد آمالهم المستقبلية، وتمكين لأعدائهم الذين لا يفرقون في الواقع بين فتح وحماس بدليل مواقف إسرائيل في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. وعلى اللبنانيين والعراقيين وكل العرب أن يدركوا أيضا أن التوحد هو طريقهم إلى الخلاص.

ورغم ما قد يبدو في الصورة من قتامة، فاني اعتقد أن الأمل ما زال ممكناً بشرط أن نسعى إليه بجدية، وان يتنافس في تحقيقه كل أبناء هذه الأمة المخلصين الذين يدركون أنه لا تناقص بين الأهداف الوطنية والأهداف القومية، بل هي تتكامل في منظومة نكون فيها جميعا منتصرين على نوازع الشر داخلية كانت أم خارجية.