فقهاؤنا.. وإغراء السياسة

TT

 قرأت للداعية السعودي، عائض القرني، مقالته الطريفة الجريئة في «الشرق الأوسط» التي حث فيها العلماء والدعاة على الابتعاد عن أتون السياسة، والتفرغ لإرشاد الناس وتعليمهم دينهم وحثهم على قويم الخلق. وقد نبه القرني إلى حقيقة نادرا ما يتم التصريح بها، وهي أن فقهاءنا لم ينجحوا في الغالب في تحبيب الدين إلى الناس، واستمالة الشباب الذي تتقاذفه موجات التطرف المتنوعة، ولم يوفقوا في تقديم المادة الفكرية التي تستجيب لهمومه في عالم أصبحت «المعاني فيه والدلالات على قارعة الطريق» كما كان يقول شيخ نقاد العرب الجاحظ. لم يفتأ العلماء قديماً تستهويهم السياسة ويشدهم بريق الحكم، لكنهم نادرا ما افتكوا الأمر أو استتبت لهم السلطة، حتى ولو كانوا عادة قوة الضرب الآيديولوجية لتشريع الثورات والانقلابات. فالعلماء هم ابعد الناس عن السياسة كما قال ابن خلدون الذي كان يصدر في حكمه عن استقراء تاريخي دقيق وعن تجربة ذاتية غنية.

ومن الواضح أن المؤسستين الدينية والسياسية لم تندمجا في الإسلام، بل حافظت كل واحدة منهما على استقلاليتها ضمن حدود صلاحياتها الضمنية الدقيقة: الإفتاء والتأويل للفقهاء وتسيير شؤون الدولة والحكم للخلفاء والسلاطين. وكما يبين الصديق رضوان السيد الذي قدم أهم دراسات عربية في الفكر السياسي الإسلامي الوسيط، فان التصادم بين المؤسستين كان يحدث في لحظات الأزمة عندما تضعف إحداهما فتطمع في الاحتواء على مهمات الأخرى، بيد أن الأمر ينتهي إلى وضعه الطبيعي في آخر المطاف. ولم تبرز في الفكر الإسلامي المعاصر أطروحة تتبنى صراحة حكم العلماء قبل نظرية ولاية الفقيه التي أخرجها الإمام الخميني من أدراج التراث الشيعي لحل معضلة الشرعية الدينية للدولة في عصر الغيبة (أي غيبة الإمام المهدي المنتظر). وكان الفقه السياسي السني والشيعي قد انتهيا على الرغم من اختلاف مرجعيتيهما إلى النتيجة نفسها: الفصل بين النظام الشرعي المثالي الذي لم يعد ممكنَ التحقيقِ إلا بمعجزة ربانية (الخلافة الراشدة بالنسبة للسنة وحكم الإمام المعصوم بالنسبة للشيعة) والسلطة السياسية، كما هي في الواقع. ولذا انطبعت كتابات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية بالبراغماتية والواقعية الشديدة، وخلصت إلى اعتبار السياسة من شأن الغلبة والقوة وانتهت إلى حصر شرعية الحكم في صون البيضة

وحراسة الدين الذي هو مقوم الهوية الجماعية.

فإمام أهل السنة أبو حامد الغزالي يذهب بوضوح لا لبس فيه الى أن مدار الشرعية السياسية هو استيفاء شروط القوة والغلبة وحفظ وجود الأمة وتجنيبها الفتنة، وابن تيمية يدافع عن شرعية العدل والمصلحة بدل شرعية العقيدة، منتبها إلى سهولة تطويع النصوص والمعتقدات لإضفاء الشرعية على الاستبداد. انهار نموذج العالم بانهيار المؤسسة الدينية في كثير من البلدان الإسلامية، على الرغم من الهياكل المعلنة القائمة كمؤسسات الإفتاء والمجامع الفقهية التي لم تعد لها في الغالب أي استقلالية عن الدولة. ومن نتائج انهيار هذه المؤسسة، بروز محاولات لبناء مرجعيات بديلة على خط التصادم بين الحركات الإسلامية السياسية وأنظمة الحكم، مما دفع بعض الفقهاء إلى معترك الصراع السياسي. ولقد كان إلى عهد قريب علماء الأزهر الكبار يشكلون مرجعية عامة في مصر ينقاد لها حتى الناشطون في الجماعات الإسلامية المتمردة على النظام، كما هو شأن الشيخين محمد أبو زهرة ومحمود شلتوت، أما اليوم فقد أصبح من الواضح أن للجانبين مرجعيتيهما المتصادمتين.

نزل الفقيه إلى معترك السياسة فكانت النتيجة هزيلة. لم تنجح تجربة ولاية الفقيه في إيران وانتهت إلى تعايش إشكالي بين حكم الحوزة التقليدية ومنطق الدولة القومية الحديثة.

وفي المجال السني، إذا غضضنا الطرف عن تجربة طلبة العلم الأفغان الذين أسسوا دولة خارج التاريخ، نجد أن انخراط بعض العلماء في الحركات الاحتجاجية المسيّسة أدى إلى نتائج كارثية كما بيَّن الشيخ عائض القرني. وهكذا أهمل أغلب علمائنا ما انتدبهم له الشرع من أمانة تأويل النص وتجديد منابع الاجتهاد. فآخر تفسير منشور للقرآن الكريم تتوفر فيه المعايير العلمية الدقيقة (ولو كان من منظور تقليدي) هو تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور الذي كتبه في منتصف القرن المنصرم. أما مشروع تجديد الفقه وإعادة بناء منظومته الأصولية فلم يتجاوز محاولات محمد عبده الأولى وحدوس محمد إقبال. ساستنا كثر وألوانهم عديدة، فلسنا بحاجة لفقهاء متسيسين بل لسياسات فقهية جديدة.