(الجنون الإسرائيلي).. وعواقبه المدمرة على استقرار الإقليم

TT

كيف يعرف العالم؟.. كيف تعلم البشرية.. كيف يعلم اليهود ـ بوجه خاص ـ: ان كراهية الظلم ومكافحته مقصد عظيم وثابت وواضح من مقاصد الاسلام.. مقصد لم يكتف بالحفز على مناهضة (الظلم الواقعي)، بل امتد هذا المقصد بمعاييره وموازينه الى (الظلم في التاريخ) حيث أدانه وجرّمه وقبح مقترفيه أيما تقبيح.

أمس الجمعة وافق العاشر من شهر المحرم.. وقد صام مسلمون كثر في العالم ذلك اليوم.

لماذا؟

إحياء لسنة نبيهم واقتداء بها.

وأصل هذه السنة ان نبينا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد صام العاشر من محرم: اقتداء بموسى الكليم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابتهاجا بنجاته هو وقومه: من ظلم الطاغية فرعون ومن اضطهاده وعذابه وإبادته.. روى البخاري ومسلم وغيرهما: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟.. فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا. فقال رسول الله: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه.

وقصة نجاة موسى وقومه من اضطهاد فرعون وظلمه وطغيانه وبطشه: قصة مبهجة سعيدة: تنزل بها الوحي الأعلى على محمد رسول الله، فهي قرآن يتلوه المسلمون ـ جيلا بعد جيل ـ ويشكرون الله جل ثناؤه على هذه النعمة العظمى التي أسبغها سبحانه على موسى وقومه:

أ ـ «ولقد أوحينا الى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى. فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم. وأضل فرعون قومه وما هدى. يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى».

ب ـ «وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم».

ولقد تحققت هذه (الحرية البهيجة) لبني اسرائيل بعد حقبة مظلمة من الاضطهاد الفرعوني الاجرامي لهم، وهي حقبة تخللتها البشرى الصدوق الموكدة بخلاص بني اسرائيل وتحررهم من طغيان فرعون واستبداده وبطشه وعلوه في الأرض وافساده فيها: «نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون».

عاشوراء ـ من ثم ـ (مهرجان النصر العظيم) الذي ابتهج به نبي الإسلام، وصام يوم ذكراه، وحث المسلمين على صيامه.

وقصة موسى وبني اسرائيل مع فرعون: تنوعت في سياقات قرآنية مستفيضة ـ مجملة ومفصلة ـ .. ومن دلالات ذلك ومفاهيمه:

1 ـ تجريم الظلم، وادانة المظلمة بإطلاق وبيقين.

2 ـ ان المستضعفين لن يظلوا مستضعفين أبد الدهر، فثمة يوم آت لا بد أن يتحرروا فيه، وأن يتمتعوا بعبير العزة والكرامة والخلاص. وقد تحقق ذلك بنجاة بني اسرائيل من استضعاف فرعون لهم.

3 ـ ان للطغاة مصيرا محتوما يهلكون فيه بهذه الصورة أو تلك.. ومصير فرعون المستبد المتأله نموذج للادكار والاعتبار (وهذا من مقاصد قصص فرعون في القرآن).

4 ـ تربية المسلمين على محبة العدل وكراهية الظلم (في الواقع والتاريخ).

5 ـ وتربيتهم على أن الفرحة بالعدل ليست محصورة في (البيْنيّة المسلمة): ان يفرح المسلم بالعدل للمسلم فحسب، بل عليه ان يفرح ويبتهج بالعدل الذي يرفع الظلم عن أهل أي ملة ودين، وعن أي جنس أو عرق.. ويثوي في هذه النقطة: مفهوم أن موازين العدل في منهج الاسلام تنتصف لكل مظلوم على هذا الكوكب ـ بغض النظر عن دينه وعرقه ـ، ذلك أنها موازين ومعايير مبرأة ومجردة من كل تعصب ديني، وكل تعصب عنصري.

وننتقل من (التاريخ) الى (الواقع)، فإنما جعلت عبرة التاريخ لئلا يكرر اللاحق جرائم السابق.

ليس ينكر أن اليهود قد تعرضوا في تاريخهم الطويل لاضطهادات شديدة متتابعة.. ونحن ضد تلك الاضطهادات الظالمة، وهو موقف مهتد بالمفاهيم القرآنية التي تدارسناها آنفا.

في الوقت نفسه، وبالموازين والمقاييس ذاتها:

نجرّم المظالم التي ينزلها الاسرائيليون بالفلسطينيين، وهي مظالم توكد أن غلاة اليهود لم يحسنوا قراءة تاريخهم، (أي لم يستخلصوا العبرة التي تقول في أول سطر من سطورها: «إن أتعس تفكير وأتعس سلوك هو ان يتحول المظلوم الى ظالم متسلط مستبد».. فقد عانى اليهود عناء شديدا من استبداد فرعون واستباحته لهم وتخطيطه لابادتهم: تخطيطا اقترن بالتنفيذ الناجز!! وها هم غلاة اليهود يستعيرون أساليب فرعون ووسائله وبواعثه وأهدافه الشريرة في التعامل مع الفلسطينيين.

وهذا نذير شؤم مستقبلي بالنسبة لهم. ومن هنا، فإن المشكلة الكبرى التي تواجه هؤلاء الناس هي: أن فريقا منهم يقدم قومه إلى الكوارث والهلاك دوما: في لحظة نشوة أو سكرة بنصر أو تفوق ما.. كان لهم كيان مريح في الأرض المباركة حول بيت المقدس، فاقترفوا فيه من خطايا الفساد والاستعلاء والغرور ما لا يطاق تصوره، فجاءهم نبيهم (أرميا) فنهاهم عما هم فيه، فعصوه، وكذبوه، واتهموه بالجنون، وقيدوه وسجنوه واستكبروا استكبارا (الاستكبار عاهة وبيلة من عاهات فرعون)، فمكثوا غير بعيد فجاءهم بختنصر فجاس خلال الديار فحرق ودمر وحكمهم حكم الجاهلية والوثنية والطغيان بعد أن حرق التوراة.. وكان لهم دولة ونفوذ في الدولة الرومانية فحاولوا التطاول والاستبداد فضربهم الرومان ومزقوا ملكهم شر ممزق.. وفي أوروبا كان لهم وزن ووضع ممتاز، ولكنهم جنحوا إلى التسلط والاستبداد في أكثر من شأن فضاق بهم الأوروبيون واضطهدوهم.

وهناك اليوم ـ في الولايات المتحدة الأمريكية ـ ملامح ظاهرة تلمح إلى ارتفاع معدلات الضيق بالنفوذ اليهودي الطاغي في تلك البلاد، فهل يعني ذلك: ان القوم مقبلون ـ على عجل أو على مكث ـ على أيام عصيبة.. وهل هذه الظاهرة هي وراء المخاوف العميقة التي اعتصرت أفئدة المشاركين اليهود في المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في القدس المحتلة منذ قريب، وهي مخاوف أمكن إجمالها في: أـ تعاظم الحملات على الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة، وعلى شرعية اسرائيل في الوجود كدولة يهودية مما يؤدي إلى تردي النفوذ السياسي لجماعات الضغط اليهودية. ب ـ بالإضافة إلى تآكل الولايات المتحدة، وهو تآكل يتوجب أن يتزامن مع رصد القوى الجديدة الصاعدة والمتمثلة في الصين والهند وهي قوى يلزم إسرائيل أن توثق العلاقة معها تحسبا لاحتمالات المستقبل!!.

وفي منطقتنا هذه ثمة حزمة مكثفة من المؤشرات والقرائن تؤكد أن غلاة الصهيونية لا يريدون السلام: لا بالنية ولا بالموقف والفعل والسلوك.

مجنون أو سفيه أو ظالم من يتهم العرب بأنهم هم الذين يرفضون السلام. فالعرب قدموا كل ما من شأنه: ان يهيئ مناخ السلام أو التسوية.. ومبادرة السلام العربية وثيقة جماعية تدل على الرغبة الجماعية في السلام.. وقبل ذلك أبرم الفلسطينيون اتفاق أوسلو مع اسرائيل.

فكيف قابلت إسرائيل الاتفاق والمبادرة؟

قابلته بمزيد من (الحرب): الحرب المتمثلة في (تثبيت الاحتلال) عبر ألوف المستوطنات.. والحرب المتمثلة في تهويد القدس الشرقية: من حيث الجغرافيتين: الطبيعية والبشرية. والحرب المتمثلة في الإبادة الجماعية عن طريق حصار التجويع والحرمان من وسائل الحياة.. والحرب الشاخصة في القتل والاغتيال وارتكاب المجازر بوتيرة على مدار اليوم والساعة.

ان هذه كلها خطط واجراءات حرب حقيقية.. وهي خطط وأفعال تجعل دعاوى اسرائيل في السلام: مجرد كذبة.. مجرد كسب للوقت.. مجرد تجميل للوجه القاتل بـ (مكياج) السلام!!. في ضوء هذه الوقائع الوثيقة الشديدة الوضوح: هل يصبح غلاة الصهيونية (سببا استراتيجيا وتاريخيا) في توريط المنطقة كلها في كوارث واضطرابات وعنف لا قبل لأحد بتصوره ولا باحتماله، هل يفعل هؤلاء الغلاة بإقليمنا مثلما فعله غلاة سابقون بأكثر من منطقة؟.

المقصود بالسؤال هو: حض الساسة والقادة في المنطقة وحث أجهزة الأمن الوطنية والقومية على (التفكير الجدي) في عواقب (الجنون الاسرائيلي) المتزايد على مصائر هذا الاقليم ككل، وعلى مصير كل وطن على حدة.