ماذا يريد العرب؟

TT

هل للفكر علاقة بالسياسة أم انه في واد وهي في واد آخر؟ هل توجد سياسة ناجحة في العالم من دون فكر كبير يضيء لها الطريق؟ طرحت هذه المسألة أخيرا في فرنسا بعد تصريحات الرئيس نيكولا ساركوزي وتدخلات الفيلسوف ادغار موران. وعشنا لحظة جميلة وممتعة من عناق الفكر مع السياسة. وقلت بيني وبين نفسي: أتمنى أن يحصل ذلك في العالم العربي. أتمنى ان يتفق المفكر والسياسي على حل المشاكل الصعبة. وبعد أن قرأت مقالة عبد الرحمن الراشد الأحد (13/1/2008) عن القضية الفلسطينية، تأكدت من ضرورة ان يتدخل المثقفون المستنيرون البعيدون عن الغوغائية والديماغوجية لكي تنحل أكبر عقدة في تاريخ العرب الحديث. فكل شيء يتوقف على حل القضية الفلسطينية، أو قل كل شيء مؤجل حتى تحل: حرية الصحافة مؤجلة، التعددية الحزبية والسياسية مؤجلة، عملية التناوب السلمي على السلطة مؤجلة، مكافحة الفقر والجوع مؤجلة، وحتى ترقيع الأرصفة وإصلاح السيارات والحافلات.. مؤجلة. كل الاصلاحات الدينية والسياسية والاقتصادية معطلة حتى تنحل قضية العرب الأولى.

ولكن كلما اقترب الحل أو اصبح قاب قوسين أو أدنى، راح المزاودون يضعون العصي في الدواليب ويحاولون عرقلة مسيرة التاريخ. يحصل ذلك كما لو انه كتب علينا ان نراوح مكاننا الى أبد الدهر. بالطبع، فإن عبد الرحمن الراشد يعترف بحصول تغير نوعي لدى المثقفين العرب في الآونة الأخيرة. فلم يعودوا يعترضون على الصلح والاعتراف وإنما على تفاصيل الحل النهائي. وأرجو ان يكون تفاؤله في محله، وان تصبح العقلانية السياسية منارة للجميع. فالذي يحرص على الشعب الفلسطيني ليس هو ذلك الذي يغرر به ويزاود عليه ويبيعه الأوهام الطوباوية. وإنما هو ذلك الذي يقول له ما هو الممكن وما هو المستحيل ضمن الظروف الحالية وموازين القوى الحالية. وإلا فسوف نظل نغامر بهذا الشعب حتى يخسر كل شيء أو حتى يفنى عن بكرة أبيه!

ينبغي الخروج مرة واحدة والى الأبد من المقولة التالية: إما ان نأخذ كل شيء أو لاشيء!! أنا واثق بأنه اذا ما وضع كل العرب ثقلهم في الميزان وراء محمود عباس فسوف يصلون الى شيء في نهاية المطاف. ولكن ينبغي على جميع العرب وليس فقط الفلسطينيين ان يسندوا ظهره طيلة هذه السنة التي قد تكون حاسمة. لماذا؟ لأنه ربما دارت فيها أشرس مفاوضات مع الجانب الاسرائيلي. وبالتالي، فالرجل بحاجة الى دعم أقصى لكي يصل الى نتيجة ملموسة. اما اذا ما طعن في الظهر فسوف يفشل ونفشل نحن كلنا معه. وهكذا نعود الى نقطة الصفر من جديد.

ينبغي على الفلسطينيين والعرب المزاودين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ان يدركوا الحقيقة التالية: وهي أن اعظم قضية في العالم قد تستنفد ذاتها بذاتها بمرور الزمن وبعد ان يُدفع ثمنها باهظا حربا وضربا، دما ودموعا. وهذه هي حالة القضية الفلسطينية. فهي من أكثر القضايا حقا وعدلا. ولكن يخطئ مَنْ يظن انها ستشغل القرنَ الواحد والعشرين مثلما شغلت القرن العشرين كله. حتى قبل بضع سنوات، كانت تحتل واجهة الصحافة العربية والعالمية الكبرى، أما الآن فقد حلت محلها قضايا أخرى وزاحمتها الى درجة انها أزاحتها عن مرتبة الصدارة والأولوية. وبالتالي، فقد آن الأوان لأن نستمع الى صوت العقل ونقبل بالحل الممكن قبل ان يصبح هذا الممكن مستحيلا. هناك فرصة سانحة لأخذ ما يمكن أخذه وتشكيل هذه الدولة الفلسطينية العتيدة التي طال انتظارها. وأنا مستعد لأن أرقص في ذلك اليوم الموعود وأفرح على الرغم من ان الفرح ليس مهنتي كما يقول محمد الماغوط. هناك درس آخر تعلمنا إياه فلسفة التاريخ: وهو انه لا يوجد غالب نهائي ولا مغلوب نهائي في التاريخ. ثم هذه الفكرة، وهي الأهم: لا يمكن للباطل ان يستمر الى الأبد وإنما سيدفع الثمن عاجلا أو آجلا. فلنغتنم هذه الفرصة اذن ولنصنع السلام ليس من أجل الآخرين وإنما من اجل انفسنا: من أجل ان ننخرط أخيرا في عملية الاصلاحات الكبرى المؤجلة منذ ستين سنة. لقد آن الأوان لكي تتغير الآيديولوجيا العربية جذرياً. وهذه هي مهمة المثقفين العرب الكبار، فأين هم؟ ادغار موران يقدم تشخيصا دقيقا لأزمة الحضارة الغربية وأمراضها وافرازاتها السلبية، بل يضع العلاجات والحلول لهذه الامراض بالذات. فأين هو المفكر العربي القادر على ان يفعل نفس الشيء بالنسبة للأزمة الرهيبة التي يتخبط فيها عالمنا العربي والإسلامي؟ اننا لا نزال ننتظر ظهوره بفارغ الصبر. أما اولئك الذين صفقوا لصدام حسين وأسامة بن لادن فلا يحق لهم اطلاقا ان يتنطعوا لقيادة الشعوب العربية، وبخاصة الشعب الفلسطيني فكرياً او سياسياً. فالمفكرون الكبار هم منارات الشعوب الذين يهدونها الى درب الحقيقة والخلاص، لا أولئك الذين يضربون على وتر العصبيات الضيقة فيضللونها ويدخلونها داهية دهياء أو يصلون بها الى حافة الهاوية.