المحنة اللبنانية: استحالة الوفاق واستحالة الحسم

TT

لم تكن الصدفة وحدها وراء «التحذير» الذي وجهه الرئيس المصري الى اللبنانيين ـ والى جيرانهم ـ من مغبة تمادي الازمة السياسية في لبنان، اذ ترافق هذا التحذير مع عودة أمين عام جامعة الدول العربية «خالي الوفاض» من بيروت. فهل سيستمع السياسيون اللبنانيون، وجيران لبنان، الى هذا «التحذير – الانذار»، فينتخبون رئيسا للجمهورية، في نهاية الشهر، او قبل مؤتمر القمة العربية في آذار؟ أم ان قيادة السفينة اللبنانية خرجت من ايدي الجميع، لبنانيين وعرب ومجتمع دولي، وباتت تحت رحمة الرياح التي تعصف بأشرعتها وتدفعها نحو أفق مجهول؟

من الراهن ان المصير اللبناني، رغم كل الشواهد، لم يعد يرسم «من الخارج» فقط، كما كان عليه الامر عبر التاريخ الحديث. وان كان هذا الخارج الاقليمي والدولي، ما زال قادرا على التأثير فيه. ولكن من الراهن ـ بعد تمادي هذه الازمة ـ المحنة القائمة، ان القيادات السياسية اللبنانية باتت، هي ايضا، عاجزة عن الاتفاق في ما بينها لتقرير مصير الحكم

والنظام والمصير الوطني. ولم يبق، منطقيا، من مخرج سوى واحد من اثنين: إما فرض الحل من الخارج فرضا. (وان صيغ بشكل «اتفاق طائف» جديد)، وإما حسم الامور عن طريق العنف، ثورة كانت أم دكتاتورية أم حربا اهلية.

ولكن اللبنانيين جربوا الثورات والحروب الاهلية، وكلها انتهت بالاتفاق على صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، اي بدون تكريس انتصار فريق من المتنازعين على الآخر. وإننا لا نرى، اليوم، ورغم كل التشنجات عند اكثرية اللبنانيين الساحقة، اي استعداد او جنوح للجوء الى العنف.

لا اتفاق ممكنا ولا حسم ممكنا. فكيف وأين ومتى الحل؟

لقد فتح الرئيسان الاسبقان الجميل وكرامي، مع انهما في فريقين مختلفين، نافذة صغيرة امام الحل، بدعوتهما الى انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم تأليف حكومة «حيادية» تكون مهمتها وضع قانون جديد للانتخابات واجراء انتخابات على اساسه، تخضع كل الاطراف المتنازعة لنتائجها، ايا كانت، وتتألف الحكومة العتيدة على اساس الاكثرية الجديدة في المجلس النيابي. الاقتراح، بلا شك، منطقي وواقعي وقد يسهل الخروج من «لا منطق» الثلث الضامن او المعطل، الذي لم يعرف علم الدستور والسياسة، مثيلا له في العالم والتاريخ. ولكن الاطراف المتنازعة لم ترحب بهذا الاقتراح، الذي سوف يلحق بغيره من الاقتراحات المنطقية والواقعية، «الوطنية» منها

والدستورية السابقة، ذلك لأن «القطب المخفية» في النسيج السياسي اللبناني، ما زالت هي التي تشد بالبلد، ضمنا وفعلا، يمينا ويسارا، شرقا وغربا، في اتجاهات متضاربة.

لقد اتضح لعيون الجميع، ان ارضية النزاع او خلفيتها، هي اصرار النظام السوري على منع فريق 14 آذار، من «تسلم» الحكم في لبنان، او الاستئثار به. بالإضافة الى تصميم ايران على الابقاء على سلاح حزب الله، كأداة لتعطيل المشروع الاميركي للشرق الاوسط، وتوسيع نطاق نفوذه السياسي في لبنان، بعد ان زودته بكل الوسائل المادية والحربية «المقنعة»، والتي جعلت منه الناطق الاول باسم الطائفة الشيعية وحامل لواء المقاومة لإسرائيل. بطبيعة الحال ما كانت سوريا وإيران، قادرتين على لعب هذا الدور المؤثر في السياسة اللبنانية، لو لم يكن لهما بين اللبنانيين حلفاء عقائديون او «مصلحيون»، او لو لم تكن التوازنات الديموغرافية الطائفية في لبنان باتت غير منطبقة مع التوازنات الميثاقية التقليدية في الحكم

والسلطة. ولكن اذا كان تغيير اصول اللعبة السياسية، القائمة على اتفاق الطائف والدستور، «يناسب» الطائفة الشيعية ـ او قياداتها الجديدة ـ فهل هو مناسب للمسيحيين في لبنان؟ وللموارنة بنوع خاص؟ ثم هل يقبل السنة والدروز والطوائف الاخرى، بتعديل اتفاق الطائف والدستور؟ ومن سيقوم بهذا التعديل: المجلس الحالي المقفل الابواب؟ أم المجلس القادم، الذي ما زال في عالم الغيب؟

لقد فوجئ الكثيرون بالحلف الذي عقده الجنرال عون، حامل لواء الدفاع عن مركز المسيحيين مع حزب الله، بعد تأليف حكومة الرئيس السنيورة، وفوجئوا مرة اخرى عندما فوض حزب الله و«أمل» عون بالمفاوضة باسم المعارضة. ولم يفاجأوا، منذ ايام، عندما اقترح الرئيس بري اعطاء رئيس الجمهورية (الماروني، ميثاقيا) عشرة وزراء من اصل ثلاثين في حكومة الوحدة الوطنية العتيدة، «تعزيزا لموقفه»، كحكم بين الفريقين المتنازعين. فقد بات من الواضح ان هناك «مشروعا» او «اتجاها» نحو حلف شيعي ـ ماروني، بوجه السنة. وهذا التفكير ليس جديدا، بل يعود الى الخمسينات،

ويتصل بمشروع إقليمي كبير، يجدد النزاع العربي ـ الفارسي، والسني ـ الشيعي، القديمين.

كل هذه المواقف انما تدل على ان هناك فريقا او اكثر في لبنان، لا يسلم باتفاق الطائف وانه يسعى لنقضه او تجاوزه. ولعل أغرب ما في الامر هو ان اتفاق الطائف لم يطبق بكل نصوصه وروحه، كي يثبت فشله ولم يطالب احد بتعديله او تفسيره، خلال السنوات الخمس عشرة التي تلت اقراره، اي ابان الوصاية السورية على لبنان، ولم ترتفع الاصوات المطالبة بتعديله – او تطبيقه بهذا الشكل المبتسر (اي الثلث الضامن، اي تكريس حق الأقلية المعارضة في المشاركة في الحكم وتعطيل قرارات مجلس الوزراء)، الا بعد الخروج السوري من لبنان، وحرب صيف 2006.

لقد «تشربكت» خيوط اللعبة السياسية في لبنان، وبات من الصعب جدا تسليكها او جمعها، على الرغم من ان نسبة خمسة وتسعين في المائة من اللبنانيين يريدون تخليص وطنهم من هذه الخيوط الداخلية والخارجية المتشابكة، وان العالم بأسره ابدى استعداده لمساعدة اهل السياسة على الاتفاق، فإن خروج لبنان من محنته، لا يبدو ممكنا او قريبا في الايام او الاسابيع او حتى الاشهر المقبلة.

لقد امل اللبنانيون والعالم كثيرا في قرار وزراء الخارجية العرب الاخير،

وخيل اليهم، من خلال كلام عمرو موسى، انه جاء الى لبنان لينفذ هذا الاتفاق لا ليقوم بدور مكوكي بين الزعماء والقادة اللبنانيين، الذين سبق له اختبار «استعدادهم» للتوافق. ولكن الامين العام اصطدم، مرة اخرى، بجدار مسدود. كما اصطدم قبله وزير الخارجية الفرنسي وغيره من الوزراء والمبعوثين الاجانب والعرب. وبكل موضوعية ليس فريق 14 آذار هو الذي يضع العصي في دواليب الحل، بل فريق 8 آذار. سواء، كانت اسبابه داخلية، كما يقول قادته، أم اقليمية، كما يعتقد كل اللبنانيين والعالم معهم.

في الحقيقة لن يبقى امام اللبنانين سوى انتظار القمة العربية القادمة في دمشق، بعد شهرين، او ربما نتيجة المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية، التي يعرف الله وحده مآلها، او انتهاء ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش، بعد عام وتغيير السياسة الاميركية، أو كل هذه «المعجزات» معا، لكي تفتح ابواب مجلسهم النيابي ويتم انتخاب رئيسهم وتتحقق عودتهم الى حياة وطنية وسياسية طبيعية.

هل يستحق اللبنانيون من قادتهم وزعمائهم هذا المصير؟

أوليس من عجائب الدهر أن يغار الآخرون، على بلد، أكثر مما يغار عليه ابناؤه؟