طمروا تحت مزاهرهم

TT

تقول البديهة ان النثر أنواع. والشعر أنواع: من الغزل الى الزجل. ومن الملحمة الى المسرحية. ومن المديح الى الرثاء. ومن ألف مِن الى ألف الى. وأعتذر عن جهلي في آداب العلم وضآلة معرفتي وقلة اطلاعي. لكنني أعتقد أننا نتميز عنها جميعا بضرب من الشعر يدعى الهجاء. ليس النقد. ليس السخرية الشكسبيرية أو المولييرية. ليس الرد على الخصم بالمفاخرة، بل بكل بساطة وصراحة وعفوية، الهجاء. والغريب ان بعض أفضل الشعراء كتبوا أجمل الشعر في الحب والغزل والمدح، ولا يطيب لنا أن نذكر منهم سوى ما شتموا وما رموا وما هتكوا. ولعل أشهر ثلاثي كان الأخطل والفرزدق وجرير وغض الطرف انك من نمير.

أعيد هذه الأيام تصفح مجموعة «الرسالة» التي أحببتها وقدرتها كثيرا. وكذلك مجموعة «العصور» التي كان يرأس تحريرها إسماعيل مظهر. ووقعت في «الرسالة» على مقال للأستاذ أنور المعداوي، العام 1951، يعرض فيه لرواية نجيب محفوظ «البداية والنهاية». ويبلغ المعداوي قراءه وقراء الرسالة بأن تلك هي «بداية النهاية لنجيب محفوظ». خلاص. كان هناك روائي وانتهى. لا نجيب محفوظ بعد اليوم. أي بعد 1951. هل يجزم الأستاذ المعداوي في الأمر؟ نعم. ألا يمكن أن يعطي نجيب محفوظ فرصة أخرى؟ لا. مش قلنا خلاص، انتهى. ما فيش محفوظ بعد كده.

استمرأ الأستاذ المعداوي لعبة الكلام «بداية النهاية» ومرح بها كتاب نجيب محفوظ ومستقبله وحياته الأدبية. ولا تزال هذه اللعبة السمجة والمملة سلوى الصحافة العربية، الثقافية والسياسية. ولا تزال تقرأ لنقاد مشهورين تعابير من نوع «من نوافل القول»، أو «ما هكذا تورد الإبل» مع أن صاحبنا لم يرَ في حياته ناقة ولا حتى ماعزا.

في «العصور» فصول كثيرة في شتم العقاد تحت عنوان «السفود» وهو أحد أقبح العناوين أو التعابير التي يمكن أن تخطر في بال، حتى في زمن ألف ليلة وليلة. ويعمد الكاتب ـ أو الكتّاب ـ في كل فصل، الى أخذ سطر أو سطرين من العقاد ثم يبني عليها مطالعة رفيعة من نوع «الشاعر المراحيضي». ولم يرد نجيب محفوظ ولا ردّ عباس محمود العقاد. عاشت «العصور» لفترة ثم زالت ومعها سفودها الأدبية. وبقي العقاد ظاهرة أدبية تتوارثها أجيال مصر والعرب. وعندما يأتي ذكره يذكر على آثاره الأدبية التي أنارت دروب مصر فيما كان نقاده وحساده يحاولون إطفاء النور. وكانوا يعرفون لغة واحدة هي الشتم. وقد تكدست حتى طمرتهم بغير ذكر أو أثر.