(قريميشة)

TT

في سنة من السنوات ذهبت مع مجموعة من الرفاق في رحلة صحراوية، وفي إحدى الليالي، وبينما كنا متحلقين حول النار خارج خيامنا ونتجرع كؤوس الزنجبيل، وإذا برجل طاعن بالسن، غير انه كان ممشوقاً كالرمح، ولم تستطع الأعوام أن تنال منه، توقف أمامنا وسلم علينا، ورحبنا به ودعوناه للجلوس.

والواقع أن ملامح ذلك البدوي الرائع الواثق بنفسه ذكرتني بملامح الممثل (انتوني كوين)، ورغم قسوة تلك الملامح، إلاّ أنها كانت مسالمة وأليفة.. تحدثنا معه طويلاً، وشرب هو من زنجبيلنا وقهوتنا كثيراً، وما هي إلاّ أقل من ساعة على استمتاعنا بسماع ذكرياته وأحاديثه التي لا تمل، حتى قام من مكانه مودعاً، حاولنا استبقاءه للعشاء غير انه اعتذر وأصر على الرحيل، رغم أنني كنت على يقين انه جائع، وهناك احتمال أن الزاد لم يطب جوفه قبل أكثر من يوم أو يومين.

وعرفت من كلامه انه عازب بعد أن توفيت زوجته التي لم تنجب له أي ولد أو بنت، لهذا فهو يعيش وحيداً مع قطيع من الخراف تقارب ثلاثمائة رأس، ويؤنس وحدته كذلك ثلاثة من الكلاب الأوفياء، وأربعة من البعارين ـ على حد قوله ـ وأنه الآن في مكان لا يبتعد عن مخيمنا أكثر من عشرة كيلومترات.

لم أنم تلك الليلة نوماً كاملاً، لأنني كنت خلالها أفكر في ذلك الرجل وأحسده في حياته الحرة تلك، وأقول في نفسي: يا ليتني كنت مكانه، وقبل أن تبزغ عين الشمس بساعة كاملة، وإذا بي ارمي باللحاف جانباً مثل (فرقع لوز)، واخرج من الخيمة حافياً لأرقب آخر نجوم السماء التي سوف تغيب.. وعقدت العزم على زيارة ذلك الرجل في (عقر خلائه).

وفعلاً امتطيت جيبي (اللاندكروز) ـ عطى الله ـ، وما هي إلاّ دقائق، وإذا بي أقول له: السلام عليكم، رحب بي، وصاح على أحد كلابه وأسكته عن النباح، قائلاً له بمزح: عندنا ضيف يا كلب وليس ذئب.

مد لي (جاعد) من الصوف جلست عليه، وأحضر لي (مركا) هو عبارة عن شداد بعير ارتكيت عليه، وجهز لي قهوة من دلة سوداء أكل عليها الدهر وشرب واسمها (قريميشة)، شربت قهوته وكأنني اشرب ماء السلسبيل ـ أقول هذا الكلام وأنا صادق ـ، لقد كنت في حضرة ذلك الرجل الأميّ البسيط سعيداً جداً، وكأنني في حضرة (بروفيسور) يلقي محاضراته في جامعة السربون أو كيمبردج.

وعندما سألته عن عيشته الضنكة هذه قال لي: إنني اعتمد على هذه الخراف في حياتي، كما أنها تعتمد عليّ أيضاً في حياتها، انها أكثر المخلوقات ضعفاً، انه قد تمر عليّ أيام طويلة لا أرى فيها أي مخلوق، ومع ذلك لم أشعر بالوحدة يوماً.. هل ترى هذه النعجات المنتفخات البطون ـ وأشار لهن ـ انهن على وشك الولادة، وفرحتي بولادتهن لا تعادلها فرحة أغنيائكم الذين يكسبون الملايين.

قام من مكانه، ثم أتى وهو يحمل في يديه حملين صغيرين لا يتعدى عمرهما أياما، وجلس ووضعهما في حضنه بكل حنان، وكأنه يحضن طفلين، ووضع إبهامه في فم احدهما وأخذ الحمل يرضعه بكل حماسة، والرجل يكاد يغشى عليه من شدة الضحك وفرط السعادة، وطلب مني أن أضع إبهامي في فم الحمل الآخر، ووضعته وأخذ يرضع، وقال لي يسأل: بالله عليك ما هو شعورك؟! قلت له: سعيد، قال: ألا استحق الحسد إذن في عيشتي المتواضعة هذه، من ساكن أكبر قصر في مدينتكم، ولا يستطيع هو النوم إلاّ بواسطة الحبوب؟!

رفعت له حاجبي، ولم أرد عليه، وإنما قلت بيني وبين نفسي: (الله عليك يا قريميشة) ما أطعمك.. وانصح من الآن أي امرأة حبلى، إذا ولدت بنتاً عليها أن تسميها (قريميشة).. وأنا اضمن لها تلك البنت، إما أن تكون حولاء، أو عينها زائغة.

[email protected]