السلام مقابل الحجاب

TT

معادلة الرئيس المصري الراحل أنور السادات كانت السلام للإسرائيليين والحجاب للمصريين، وهذا هو سرها. هذا مقال يجب أن يقرأ بحساسية خاصة، فالهدف من إعادة قراءة زيارة السادات للقدس ونتائجها على المجتمع المصري من منظور مختلف، هو النقد الذي لا يهدف إلا للنفع. وبمسافة ثلاثين عاما من البعد عن الحدث، وآلاف الأميال بعدا عن مصر، قد يستطيع الفرد أن يقدم قراءة مغايرة ليست ملتبسة بالزمان أو مشتبكة مع المكان.

قبل أن يخطو نحو السلام مع الإسرائيليين، أطلق السادات العنان للقوى الدينية في المجتمع المصري، وكان سعيدا بلقب (الرئيس المؤمن). ظن السادات، أن هذه القوى الدينية التي غازلها واطمأنت إليه، ستكون بمثابة الكتلة الشعبية الإسلاموية التي ستدين بالولاء له، وبالتالي لن تنقلب عليه في خطوته الجريئة. ومن الأدلة المباشرة على ذلك، تلك التي عايشتها شخصيا يوم كنت طالبا في جامعة أسيوط (1977-1981)، حيث كان محافظ أسيوط يقدم كل الدعم المادي والمعنوي للجماعة الإسلامية التي نجحت بقوة المال وقوة الهراوات والجنازير أن تحجب جامعة بأكملها.

نتيجة هذه الصيغة «السلام مقابل الحجاب»، ترى في مصر اليوم مجتمعا قد تحجب بالكامل، ليس على مستوى الملابس وإنما على مستوى العقل، ولولا الكتلة البشرية القبطية في مصر، التي تتمثل بحوالي العشرة ملايين نسمة لكان المجتمع المصري اليوم أشبه بإيران، هذا إن لم نذهب بعيدا ونقول أشبه بطالبان. أنا لست ضد زي المرأة، سواء أكان حجابا أم غيره، فقد نشأت في جنوب مصر، حيث تلبس النساء لباسا تقليديا محتشما، يشبه ما تلبسه نساء جنوب العراق، لكن الحجاب الذي أتحدث عنه هنا هو الحجاب الحديث، الذي لا جذور تاريخية له في المجتمع المصري. هذا الحجاب هو سياسة لا ملبس، وأنا ضد استخدام الملابس كرموز سياسية فجة.

من غير العدل إنكار جرأة السادات في ما يخص مبادرة السلام، ولكن تكلفة مقايضة السلام بالحجاب خلقت في مصر وبعد ثلاثين عاما من زيارة السادات للقدس، مجتمعا اقترب في سلوكه من دولة دينية لا دولة مدنية. ثمن الصفقة دفعته مصر غاليا بتوقف مسار تطورها الاجتماعي والثقافي، فنتيجة لهذه الصفقة ظهرت في مصر مدارس التكفير، التي بدأت أولا بتكفير رأس الدولة الذي (خان) وصافح اليهود، ثم كفرت الكاتب أو المفكر أو الصحافي الذي رأى أن مبادرة السادات لم تكن شرا كلها، وبعد هؤلاء كفرت المؤسسة العسكرية والأمنية، حتى غدت اليوم تكفر كل من خالفها رأيا أو موقفا. اليوم لم تعد هذه المدارس مجرد جماعات متطرفة غريبة عن التركيبة الاجتماعية، أصبحت من صميم المجتمع، فالمتطرفون في مصر اليوم لهم تأثير كبير في صياغة الرأي العام، يكتبون في الصحف القومية ويظهرون في التلفزيون الحكومي، المتطرفون غدوا جزءا واسعا وكبيرا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.

لو كان هناك سلام مفتوح لا سلام مغلق، لربما انفتح المجتمع المصري على العالم. المصريون أخذوا السلام، بمعنى استعادة الأرض والحدود الآمنة، ورفضوا التطبيع، بمعنى أن مدارس التكفير التي طغت وسادت جعلت بين المصريين وبين الانفتاح على العصر حجابا.. إذن صفقة «السلام مقابل الحجاب»، لم يكن مقصودا بها مجرد حجاب للمرأة، وإنما هو حجاب للمجتمع والدولة أيضا.

أعرف أن مقولة «السلام مقابل الحجاب»، ومقولة أنه «لولا الكتلة البشرية القبطية لتحولت مصر إلى طالبان»، ستثيران علي الزوابع من تجار الوطنية الرخيصة، وممن يتصيدون في الماء العكر، ولكنها الحقيقة التي لا بد أن تقال وناقوس الخطر الذي يجب أن يدق. فهذه هي صورة المجتمع المصري باستثناء واحات صغيرة مثل شرم الشيخ أو الساحل الشمالي في مواسم الصيف. أحزن كمصري عندما أرى تآكل مساحات الدولة المدنية في مصر، ولك فقط أن تقارن بين المصريين كما كانوا يظهرون في حفلات أم كلثوم وبين المصريين اليوم. ورغم أن مصر، مقارنة بمحيطها الإقليمي، هي بلد فيه مساحات واسعة من حرية التعبير، ولكنه مسجون في مفردات نسجها حول نفسه حتى ليكاد يختنق.

لا أحد ينكر على القيادة المصرية مجهوداتها في تطوير المجتمع، ولكن السادات ترك إرثا من الأصولية الدينية لا يمكن لأي رئيس بعده أن يفك لحمته، من دون أن ينهار البيت على من فيه. البرامج التلفزيونية كلها، ولمدة ثلاثين عاما، أصبحت برامج دينية تقريبا، دخل الدين في برامج الطبخ والأزياء والسياسة. ومما يثير الأسف والغيظ معا أن تسمع بعض المصريين اليوم يتحدثون عن توبة الفنانات «العائدات إلى رشدهن»، وعن مقهى تملكه فنانة مصرية يحظر دخول الأقباط، هذه بالتأكيد ليست مصرنا التي نعرفها.

ولتلك المعادلة تنويعات أخرى يجب ألا نتجاهلها، ففي مصر اليوم ثنائية «الشيخ والجنرال»، الشارع للشيخ والدولة للجنرال. تنويعة تقسيم العمل هذه أنتجتها مبادرة سلام لم يكن المجتمع مهيئا لها. وبما أن العرب قادمون على مبادرات سلام اليوم، أتمنى ألا يعقدوا هذه الصفقة مع مجتمعاتهم، فتلك وصفة التخلف بعينها. الأردن، للأسف، دخل مشروع السلام بالوصفة (الساداتية) ذاتها: الشارع للإخوان المسلمين، والحكم للملك. ورغم أننى من المعجبين بطموحات ملك الأردن الشاب، ولكن صفقة «السلام مقابل الحجاب» إن لم يتم تعديلها قد تصل بالأردن إلى ما وصلت إليه مصر. معاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية حديثة العهد، لم يمر عليها وقت طويل بعد كما مبادرة السادات، أي أنه من الممكن أن تزال آثارها الداخلية بتكلفة أقل مما هو عليه الحال في مصر. الأردن أيضا، لولا وجود الأسرة المالكة، لتحول إلى طالبان غدا.

الصفقات المطبوخة على عجل لها نتائج سيئة. ظن الكثيرون في مصر أنني (ساداتي) على طول الخط، ولا يمكن لي أن أنتقد السادات، الحقيقة هي أن السادات أعاد الأرض المصرية، فهو عرف كيف يخوض الحرب وكيف يستثمر نتائجها، وله على هذا كل الاحترام، ولكني ما زلت قلقا بشأن تكلفة السلام الاجتماعية على مصر، ليس من منظور وطنية شيفونية فجة أو من منظور معاد للسلام، ولكن من منظور الحرص على الاحتفاظ بمكتسبات المواطن المصري العادي في حقبة ما بعد الاستقلال.

لا بد لنا أن نعترف بأن أفضل ما أنتجته مصر الحديثة، معرفيا وحضاريا، هو من عمل جيل كامل تربى في الفترة الليبرالية في ظل الملكية وما خلقته من مؤسسات ظلت لفترة متأثرة بالجو الليبرالي، مثل الروائي العالمي نجيب محفوظ والفيلسوف زكي نجيب محمود والمفكر لويس عوض والفيزيائي أحمد زويل والدبلوماسي الدولي محمد البرادعي وغيرهم، كلهم تربوا في بيئة لم تتمكن محدودية إمكانات الثورة المحاصرة أن تغيرها. المصريون (المحجبون) الذين نراهم اليوم هم نتاج حالة غضب وانعزال. فمصرعبد الناصر، ويجب ألا يتحمل الرجل وحده كل السلبيات، كانت أشبه بإيران نجاد اليوم، دولة محاصرة وغاضبة ومعزولة عن العالم.

في فترة الثورات والفورات يراد لكل شيء أن يطبخ بسرعة، التعليم تعبئة وشعارات، والاقتصاد تأميم عشوائي، والسياسات الخارجية هي دوائر تؤكد أن الثورة الوليدة شريكة في كل حروب العالم. تلك هي الثورات، وليست مصر بالحالة الخاصة. لكن ما زاد الطين بلة هو أن الرجل الثاني في الثورة (السادات) الذي سلق سلاما سريعا، أدخلنا في معادلة «السلام مقابل الحجاب»، وثنائية «الشيخ والجنرال»، فكانت الدولة للعسكر وكان المجتمع للإخوان المسلمين. لا حل لمصر سوى بفك الارتباط بين السلام والحجاب، وبين الشيخ والجنرال. والإصلاح يبدأ من هنا. ففي أي مجتمع عندما ترتبط مصالح مجموعات كبيرة من أحزابه السياسية ومنظماته ومؤسساته الإعلامية المتلفزة والصحف والأفراد، باستمرار قصة الصراع مع العدو إلى ما لا نهاية (العربي ـ الإسرائيلي في حالتنا)، يبدو المستقبل قاتما. ذلك لأن المجموعات التي تتعيش من المتاجرة بالشعارات الجهادية المحاربة، تجد في السلام قطعا لهذا الرزق، فيكون السلام بالنسبة لها قاتلا لأنه يحاربها في «أكل عيشها»، كما يقول المصريون.

حان الوقت لأن نغير من طريقة تفكيرنا ومن مفرداتنا التي ترن لأنها فارغة، كي نبني كتلة في المجتمع تؤمن بالسلام وتشرح فوائده التي يجب أن تعود علينا. فالسلام مع النفس ومع الداخل أهم من سلام مع الخارج. السلام مع الخارج هو صفقة يجب أن تعود بالفائدة بالدرجة الأولى على شعوب هذه الدول، أي يصب في السلام الداخلي. أما ما نحن فيه اليوم فهو صيغة لا تتعدى كونها «السلام مقابل الحجاب»، وهي وصفة صراع داخلي لا وصفة سلام.