لبنان والمنطقة.. إلى أين؟

TT

دعونا من الكلام الذي زاد عن حده خلال الفترة الأخيرة على مختلف المستويات. فحقيقة الأمر أن منطقة الشرق الأوسط اليوم على كف عفريت.. حرباً أو سلماً.

أنا على ثقة من أن العقلاء من ساستنا يرون الصورة القاتمة كما هي، لكن واجبهم السياسي يقضي باعتماد الدبلوماسية الصبورة والتفاؤل خيراً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. فالحسم عن طريق الحرب لن يبعد كأس المعاناة عن شعوب المنطقة، ولكن المؤسف أن التفاؤل بأي سلام كان، أيضاً، لا يبشّر بوقف الانحدار نحو الكارثة المحيقة بها.

أقول هذا، وأنا أتذكر مجريات جولتي الرئيسين الأميركي والفرنسي جورج بوش «الابن» ونيكولا ساركوزي الشرق أوسطيتين، وكلامهما الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع.. على وقع تفجر «الألغام» من كل نوع ولون في الأماكن التي فضّل الزعيمان الا تشملها الجولتان.

يُقال لنا منذ حين أن لدى واشنطن مشروعاً للشرق الأوسط عنوانه «الفوضى الخلاقة» المفضية إلى إعادة ترتيبها وفق أسس جيو ـ بوليتيكية جديدة. لكن المشكلة مع إدارة بوش «الابن» أنها بارعة نظرياً، لكنها سيئة جداً عند التطبيق في مجال الجيو ـ بوليتيك.. بدليل تقديم العراق لقمة سائغة إلى إيران.

مع هذا كرّرت واشنطن تحريضها لدول الخليج العربية على إيران، من دون تقديم ضمانات بأن المعركة مع إيران باتت محسومة، بل جاء التحريض المتكرّر بينما تدمّر إسرائيل في الأراضي الفلسطينية البقية الباقية من فرص السلام القابل للحياة.. وكأن دول الخليج وشعوبها في القطب الشمالي، وأرض فلسطين في القارة المتجمدة الجنوبية!

وحول إسرائيل، هل تضمن واشنطن أي التزام بالسلام ليس فقط من الحكومة الإسرائيلية المهزوزة الحالية، بل من حكومة «اليمين» المرتقبة بعد الانتخابات المقبلة للكنيست؟

إسرائيل تخوض اليوم «حرب إلغاء» السلام مستغلة خطيئة «حماس» المميتة في فرض هيمنتها على قطاع غزة بقوة السلاح.. بعدما كان شعارها الدائم «لن ننجر إلى حرب أهلية فلسطينية» (!).. وأنا شخصياً، اعتقد أن ردة الفعل في الأوساط الشعبية الفلسطينية غير المنضوية تحت لواءي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» على مجازر غزة الأخيرة كانت ستكون أقوى وأعنف بكثير لو لم توسّع «غزوة غزة» الهوة النفسية والدموية بين الفلسطينيين.

وفي السياق نفسه، نسمع يومياً تقريباً من مركز القرار في قُم وطهران، أن إيران قرّرت التصدّي لـ«المشروع الأميركي» والعدوان الإسرائيلي. ولكن أين؟.. في الأراضي الفلسطينية وفي لبنان!

هنا نتذكر شعاراً مماثلاً لشعار «حماس» المنسي.. رفعه «حزب الله» هو أن «سلاح المقاومة لن يستخدم في الداخل» اللبناني. بيد أن الاعتبارات الاستراتيجية القاضية بتطهير الساحة اللبنانية من «عملاء» أميركا وإسرائيل و«أدواتها» عدّلت ـ على ما يبدو ـ في التوجهات السياسية والعسكرية لـ«الحزب»، فما عادت ثمة «خطوط حمراء» ولا حتى خطوط رجعة.. خاصة بعد تكثيف الرسائل «العاشورائية» للخطاب التخويني السافر والتعبئة المذهبية والحضّ الطائفي على إسقاط الحكومة «غير الشرعية وغير الميثاقية» ونسف «الأكثرية الوهمية المستأثرة».

ولقد كانت الرسالة الانقلابية الأخطر مضموناً على الإطلاق، كلمة السيد حسن نصر الله في خامس أيام عاشوراء، التي تناول فيها بهدوء مدروس مسألة «العدل» ـ ذات الأهمية الكبرى في التشيّع ـ في معركته الموعودة. ولا يقلل من خطورة هذه الرسالة، بل يعزّزها، انها كغيرها من الرسائل «التلقينية» موجّهة إلى جمهور صغير السن سريع الاستثارة والتهييج.. يسهل «الفشل في ضبطه» في ما بعد.

وإذا ما أضفنا إلى مهمة إحقاق «العدل»، ولو أدى إلى الفتنة، ما جادت به قريحة الوزير السابق سليمان فرنجية وقبله النائب ميشال عون من «مواعظ» إلى البطريرك الماروني نصر الله صفير، تتكشّف أمامنا أبعاد الحرب الشاملة، التي أطلقت شرارتها ضد الدولة، وما تبقى من النسيج الاجتماعي في لبنان.

إن مسيحيي لبنان يواجهون اليوم أخطر حقبة في تاريخهم المعاصر. ونزوع زعامات سياسية مسيحية إلى مهاجمة شخص البطريرك ـ وهو، بالمناسبة، اللبناني الوحيد بين رؤساء الكنائس العربية الثلاث الكبرى لكرسي أنطاكية وسائر المشرق ـ يعد تطوّراً باتجاه سقوط آخر المحرّمات.

ومعلوم أن اعتماد استراتيجية «تلغيم» الطوائف اللبنانية ـ بما فيها المسيحية ـ بميليشيات قرارها خارج الحدود، كمعظم أحزاب المعارضة، ينذر أي فئة لبنانية ترفض الاستسلام.. إما بسحقها عسكرياً أو دفعها دفعاً لطلب حماية أجنبية قد تأتي وقد لا تأتي.

هنا، يصبح واضحاً أن مَن يدّعي منع الآخرين من «الاستئثار» يهدف إلى «الاستئثار»، ومَن يتهم الآخرين بالسعي إلى «التقسيم» و«الفدرالية» إنما يرفض «التقسيم» لأنه يريد لنفسه كل شيء، ومَن يرفض «التوطين» يعمل لتسهيله شرط أن يأتي ضمن صفقة تعايش إقليمية متفاهم عليها مع إسرائيل ورعاة إسرائيل.

كذلك يصبح واضحاً الفارق الفظيع بين الوعود الدبلوماسية التي تقطعها دمشق للوسطاء العرب والدوليين..

والتفجير الميداني المستمر على أرض لبنان للإجهاز على الدولة ومؤسساتها، واستعادة السيطرة على كامل مقدّرات البلاد، وإلغاء المحكمة الدولية المشكلة للنظر بجريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والجرائم المتصلة بها من قبل ومن بعد.

هذا المشهد، يشير في ظل تراجع مؤشرات الحسم العسكري الإقليمي مع إيران.. إلى عبثية الحوار الدبلوماسي (عربياً ودولياً) مع سورية.

وبالتالي، مع انشغال واشنطن بسنتها الانتخابية الحارة، سيتهدّد كل من لبنان وفلسطين، وكذلك العراق ودول الخليج، بتصعيد ثلاثي المصادر: إسرائيلي وإيراني وسوري..

فالمؤكد أن سباق البيت الأبيض سيريح إسرائيل وإيران، كما أن اطمئنان دمشق إلى استمرار الرضى الإسرائيلي عليها سواء عبر الوساطة التركية أو «اللوبي الإسرائيلي» في الكونغرس سيشجعها أكثر على تشديد حملتها لإسقاط الثمرة اللبنانية الناضجة في أحضانها من جديد، تمهيداً لبناء «حكم دمية» آخر في لبنان، لكنه هذه المرة سيجمع علناً بين «ولاية الفقيه» و«وصاية الرفاق».. ويحظى بمباركة من «الجار» الجنوبي كحال الفترة من 1976 إلى 2000.